الفتح الإسلامي للبنان:
ارتبط فتح لبنان إبان الفتوحات العربية الإسلامية بفتح سورية الطبيعية، أو ما يعرف ببلاد الشام، كونه جزءًا لا يتجزأ منها، وقد انتزعه المسلمون من الإمبراطورية البيزنطية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أمر بتقسيم جند الشام حين فتحها إلى أربعة أجناد، منها جند دمشق الذي يدخل فيه جبل لبنان مع ما يقابله من السهول الساحلية الغربية والسهول الداخلية الشرقية.
وكان يزيد بن أبي سفيان على مقدمة الجيش الإسلامي الذي توجه إلى لبنان وبمعيته أخوه معاوية، فسار إلى صيدا وبيروت وجبيل في حين دخل خالد بن الوليد منطقة البقاع حتى بعلبك، وصالح المسلمون سكان لبنان وغالبيتهم أخلاط من النصارى العرب (أنباط وموارنة نسبة إلى القديس مارون ت410م) إلى جانب المردة أو الجراجمة (أصحاب جرجومة في جبل اللكام)، على أن يكونوا جميعًا عونًا للمسلمين في مواجهة الروم البيزنطيين، فعرفوا باسم الرواديف، وأسقط المسلمون عنهم الجزية وعوملوا كباقي المسلمين.
لبنان في العصر الأموي:
ومع نزوح القبائل العربية الإسلامية إلى مناطق السواحل والثغور في إطار أعمال الفتح، أخذ نصارى لبنان يتجمعون في المناطق الجبلية الحصينة على طول الساحل، وصارت لهم شوكة، فكانوا بين الحين والآخر يتصلون بالبيزنطيين الذين اتخذوا منهم رأس حربة يغيرون على المسلمين منذ أيام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان مستغلين انشغاله بالأحداث التي ترافقت بخلافه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وبلغ تمردهم أوجه في عهد عبد الملك بن مروان في أثناء الأحداث التي ذر قرنها في الحجاز والعراق على خلفية الثورة التي قام بها عبد الله بن الزبير، فاضطر عبد الملك إلى موادعتهم، وكان يدفع لزعمائهم ألف دينار في كل أسبوع، وفي عهد ابنه الوليد بن عبد الملك تمرد الجراجمة على سلطان الخليفة ثانية فتوجه إليهم مسلمة بن عبد الملك بإيعاز من أخيه ودخل عاصمتهم جرجومة وفرق أهلها في جميع المدن اللبنانية وشرط عليهم ولهم، ومنهم من انضم إلى جيشه وشاركوا المسلمين في غزواتهم من دون أن يكره أيًا منهم على ترك نصرانيته.
لبنان في العصر العباسي:
وبعد سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ/749م، لم يتمكن العباسيون من استمالة أهل الشام إلى جانبهم، ومن جملتهم سكان جبل لبنان بسبب حرمانهم من المزايا التي كانت لهم في العهد الأموي.
ثم إن العباسيين عاملوا أهل الشام عمومًا كمعاملةَ البلاد المفتوحة حربًا، فقام الجراجمة بسلسلة من الثورات، بدءًا من سنة 135هـ/752م وتمكنوا بقيادة أحد زعمائهم "إلياس" من هزيمة عدة جيوش أرسلها الخليفة أبو جعفر المنصور إلى لبنان، ومع أن إلياس هذا قتل في الموقع المعروف اليوم باسم "قب إلياس" بيد أن أصحابه استمروا في عصيانهم بقيادة زعيم آخر اسمه "سمعان" توالت على يديه هزائم الجيوش العباسية وكاد أن يستولي على حمص وحماة عن طريق المساعدات التي كانت تأتيه بحرًا من البيزنطيين، واشتد خطر الجراجمة عند منتصف القرن الثاني الهجري عندما تولى قيادتهم "بندار" وأعلن نفسه ملكًا عليهم، فقام صالح بن علي عم الخليفة بحشد جيش كبير قاده بنفسه وتمكن من القضاء على ثورتهم واستولى على حصونهم وهدمها، ومن أجل أن يقضي على أي تمرد محتمل في المستقبل عمل الخليفة المنصور على تفريق أعداد كبيرة منهم في بلاد الشام، واستقدم بعض القبائل العربية مثل تـنوخ وهي قبيلة عربية تدين بالنصرانية؛ فأحلها في مناطقهم فكان عمله هذا محل نقد الإمام الأوزاعي الذي أرسل إلى الخليفة يلومه على مثل هذا الإجراء.
انتشار التشيع في لبنان:
لم يكن سكان لبنان مسلمين ومسيحيين بمنأى عن تعسف عمال وولاة الدولة العباسية في بلاد الشام، الأمر الذي مهّد لانتشار روح التشيع عند بعض مسلمي لبنان، خاصة حينما بسط الفاطميون نفوذهم على بلاد الشام في القرن الرابع الهجري، فتحولت أعداد كبيرة منهم إلى الشيعة بمختلف مذاهبها، وتشكلت في طرابلس إمارة شيعية بزعامة ابن عمار أحد قضاة الدولة الفاطمية.
أما عن انتشار المذهب الدرزي في لبنان، كما في سورية، فإن المصادر التاريخية تشير إلى أن حمزة بن علي الفارسي المعروف باللباد، وهو من أصحاب محمد بن إسماعيل الدرزي وممن دعا إلى ألوهية الحاكم بأمر الله الفاطمي، قام بعد وفاة الحاكم بتعليق رسالة على أبواب المساجد يذكر فيها أن الحاكم لم يمت، وإنما اختفى ليختبر إيمان أتباعه، واتخذ حمزة معبدًا سريًا كان يدعو الناس فيه إلى عبادة الحاكم وتوحيده، فثار عليه المسلمون في مصر خاصة بعد أن أعلن الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم براءته من هذه الدعوة، فهرب حمزة بن علي وأتباعه من مصر فنزل بعضهم بجبل الشوف ووادي التيم بلبنان، وبعضهم الآخر في جهات حوران.
الاحتلال الصليبي في لبنان:
عند نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، بلغ الضعف مداه في العالم الإسلامي المنقسم على نفسه بين العباسيين والفاطميين إلى جانب دويلات المغرب والأندلس، فقام الصليبيون بحملاتهم المتكررة على المشرق الإسلامي، واستولوا على سواحل بلاد الشام بما فيها الساحل اللبناني الذي أصبح جزؤه الجنوبي من بيروت تابعًا لمملكة بيت المقدس الصليبية، وجزؤه الشمالي حتى طرطوس تابعًا لإمارة طرابلس.
لبنان في عهد المماليك:
ومع أن الزنكيين والأيوبيين تصدوا للصليبيين وألحقوا بهم عدة هزائم، غير أنه لم يقض على قواعدهم وفلولهم إلا في عهد المماليك، حينما تمكّن السلطان قلاوون من تحرير طرابلس سنة 688هـ/1289م، وطردوا نهائيًا من عكا في عهد ولده الأشرف خليل سنة 691هـ/1291م، وكان المماليك قد حرروا مدن الداخل اللبناني من التتار بعد هزيمتهم في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م وبعد ذلك خضع لبنان للسيطرة المملوكية وكان موزعًا بين نيابتي طرابلس في الشمال وصفد في الجنوب حتى دخول العثمانيين إلى بلاد الشام في أعقاب موقعة مرج دابق سنة 922هـ/1516م.
لبنان في العصر العثماني:
لم يلق العثمانيون أيّ مقاومة في فتحهم بلاد الشام، ومنها لبنان، إثر موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، ولكن في أعقاب الثورة التي قام بها جان بردي الغزالي عام 926هـ/1520م، لجؤوا إلى تقسيمها إلى ثلاث ولايات: الشام (دمشق)، حلب، وطرابلس. وقسّمت كل ولاية إلى عدد من الصناجق أوالألوية، وباعتماد هذا التقسيم بقي ما يسمى حاليًا "لبنان" موزعًا بين ولايتي الشام وطرابلس.
تميزت سياسة العثمانيين الداخلية منذ البداية بعدم التدخل في الشؤون المحلية للولاة والمقاطعجية (ملتزمو جباية الضرائب)، وتركزت أهدافهم عمومًا على نقاط عدّة أهمها الاعتراف بالنفوذ العثماني، والدعاء للسلطان في الخطب أيام الجمعة والأعياد، والمحافظة على الأسس الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأطر الحياتيّة التي تعيشها البلاد من دون أي مسعى جدي لتطويرها واستثمار خيراتها، بل الاكتفاء بجباية الضرائب منها وحفظ الأمن فيها. وبناءً على ما تقدم فقد أبقى العثمانيون كثيرًا من مظاهر الإدارة المملوكية في منطقة الجبل لفترة مؤقتة، وأبقوا أيضًا الزعماء المحليين الذين قامت زعامتهم على أسس دينية أو إقطاعية أو بدوية أو حزبية قيسية - يمنية، طالما أنهم يقدمون الطاعة والضرائب للسلطنة. ومن هذا القبيل اعترف العثمانيون بالمعنيين الذين قدموا لهم الولاء كأمراء على جبل لبنان محل التنوخيين الذين كانوا أمراء الجبل في عهد المماليك.
ولإيجاد نوع من توازن القوى في الجبل فقد شجع العثمانيون قيام أمراء محليين متعددين يتنافسون فيما بينهم على تهدئة الأوضاع في المنطقة تحت سقف الموالاة للدولة العثمانية. ولهذا وجد في القرن السادس عشر أمراء محليون استطاعوا أن يثبتوا نفوذهم محليًا، واعترف العثمانيون بسلطتهم مثل آل عساف التركمان في لبنان الشمالي، وكان مركز حكمهم في غزير، وآل سيفا الأكراد في منطقة طرابلس، وآل الحنش ومن بعدهم آل فريخ في البقاع، وآل الحرفوش في منطقة بعلبك، وآل حمادة في البقاع الشمالي.
فخر الدين المعني الثاني الدرزي:
سادت فترة هدوء الإمارة المعنية في جبل لبنان،كسائر بلاد الشام، استمرت حتى أواخر القرن السادس عشر، ولكن عندما أخذت الدولة العثمانية، ولأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية، تعاني أزمات مالية متتالية على الصعيدين الداخلي والخارجي بدأت تظهر أعمال التمرد والعصيان في صفوف العساكر بدءًا من النصف الثاني من القرن السادس عشر، ثم انتشرت بين الأمراء المحليين في القرن السابع عشر، بهدف تعميق نفوذهم المحلي، كما فعل الأمير فخر الدين المعني الثاني (998-1044هـ/1590-1635م)، عندما قضى على منافسيه في الشمال وطرابلس وبيروت، ثم احتل البقاع، وأخذ يتوسع في فلسطين إلى أن تمكن من إقامة إمارة كبيرة اعتمد اقتصادها على الموارد الطبيعية المتوافرة في الإمارة، وخاصة إنتاج الحرير الطبيعي في الشوف، وتسويقه في الدويلات الإيطالية. وعلى الرغم من ازدياد قوة فخر الدين فقد تمكن السلطان مراد الرابع (1032-1049هـ/1623-1640م) من القضـاء عليه، ممـا أضعف المعنيين على الرغم من بقائهـم في الإمـارة حتى عام 1108هـ/1697م، وأضعف معهم الحزب القيسي الذي كانوا ينتمون إليه، وهو الحزب المناوىء للحزب اليمني ممثلًا بآل علم الدين الذين تمكنوا بمساعدة العثمانيين من الحلول محل المعنيين في الإمارة.
الشهابيون في لبنان:
أدى القضاء على فخر الدين إلى حدوث ما يشبه الفراغ السياسي في جنوبي بلاد الشام بعد أن قضى فخر الدين في أثناء توسعه على كثير من الأسر الإقطاعية، وأضعف ما بقي منها. وحاول ولاة دمشق أن يملؤوا هذا الفراغ، إلى أن ظهر ظاهر العمر الزيداني في القرن الثامن عشر الذي سيطر على معظم فلسطين، وطغى بنفوذه على أمراء جبل لبنان والولاة العثمانيين في المنطقة على حد سواء، ليتسلم من بعده الشهابيون، أمراء وادي التَيم الإمارة، عندما انتخب القيسيون الأمير بشير الشهابي ابن أخت الأمير أحمد المعني الذي توفي عام 1108هـ/1697م. ومما يسترعي الانتباه قوة التعاطف القيسي الذي طغى على كل الاختلافات المذهبية، فاختير الشهابيون السنّة خلفًا للمعنيين الدروز.
موقعة عين دارة:
وأدى هذا التكتل القيسي إلى تكتل يمني بالمقابل، وبلغ الصراع بين الحزبين أوجه حين اشتبكا في قتال دامٍ في موقعة عين دارة سنة 1122هـ/1711م التي هُزم فيها الحزب اليمني، ولجأ من سلم منهم إلى جبل حوران. وكان من نتائج هذه الموقعة أيضًا إعادة النظر في التقسيمات الإدارية لبلاد الشام حيث أنشئت ولاية رابعة هي ولاية صيدا عام 1070هـ/1660م التي سلخت عن ولاية دمشق، وضمت إليها صنجقي صفد وصيدا مع بيروت لإحكام الرقابة على جبل لبنان من ناحية، ولإتاحة المجال لولاة دمشق للاهتمام بمسؤولياتهم المتزايدة من ناحية أخرى. ومن نتائج معركة عين دارة أيضًا إعادة النظر في التقسيمات الإقطاعية في جبل لبنان، لملء الشواغر في الإقطاعات التي أُحدثت إثر مقتل الأمراء المعنيين.
ولمكافأة المؤيدين للأمير حيدر الشهابي الذي رفع من شأن الأسر التي دعمته فمنح رؤساءها لقب شيخ (أُعطي صلاحيات ملتزم أو مقاطعجي لجمع الأموال الأميرية في منطقته)، وأبقى مشايخ الأسر الأخرى التي أيدته بمواقعهم كملتزمين.
الأمير بشير الشهابي:
ويلاحظ أيضًا أن زوال اليمنية كقوة سياسية في جبل لبنان كانت له آثار سلبية في مستقبل القيسية التي انقسم أتباعها فيما بعد على أنفسهم وتجمعوا حول حزبي الجنبلاطية واليزبكية في أواسط القرن الثامن عشر ونافس الجنبلاطية الأمراء الشهابيين الذين تمكنوا من دعم مركزهم في عهد الأمير يوسف الشهابي الذي أعاد إلى إمارة جبل لبنان نفوذها في الداخل وفي المناطق المجاورة ليتسلم الإمارة الأمير بشير الشهابي 1036هـ/1788م الذي تمتع بصيت واسع تجاوز حدود منطقته وخاصة حينما وقف ضد نابليون بونابرت 1047هـ/1799م وتحالف مع حاكم مصر محمد علي باشا، حينما غزت قواته بقيادة ابنه إبراهيم باشا بلاد الشام بين عامي 1246 و1255هـ/1831 و1840م.
الصراع بين الموارنة والدروز:
استغلت الدول الأوربية سياسة الانفتاح على الغرب التي اتبعها إبراهيم باشا في بلاد الشام، فكانت هذه الدول تتحين الفرص المناسبة للتدخل في الشأن اللبناني حين كان الجبل يشهد تحولات اجتماعية واقتصادية تمخض عنها قيام اضطرابات وانقسامات أخذت بعدًا طائفيًا بين الإقطاعيين والمقاطعجية الدروز والفلاحين الموارنة؛ مما اضطر الدولة العثمانية إلى تقسيم الجبل سنة 1258هـ/1843م إلى قائمّقامتين، الأولى مارونية في الشمال والثانية درزية في الجنوب، ومع أن الأحوال هدأت نسبيًا بيد أن هذه الثورات ما لبثت أن استعرت من جديد 1274هـ/1858م، ولكن هذه المرة بين الفلاحين من موارنة ودروز وبين الإقطاعيين من الدروز وبعض الأسر المارونية كآل الخازن، فتدخَّلت عندئذ القوى الإقطاعية والعثمانية والأوربية المتربصة لتحرف هذه الثورات التحريرية عن مسارها وتحوّلها إلى حرب طائفية وصراعات دموية.
متصرفة لبنان:
كان من أهم نتائجها إنزال فرنسا بموافقة الدول الأوربية قواتها في بيروت في 1276هـ/ آب/أغسطس1860م لتهدئة الوضع، غير أن السلطنة العثمانية اشترت انسحاب هذه القوات في حزيران/يونيو 1277هـ/1861م بإصدار نظام إداري بضمانة الدول الأوربية لتنظيم أمور لبنان،نص على إلغاء نظام القائمّقامتين، وإقامة سلطة تشرف على شؤون الجبل بكامله يرأسها متصرف مسيحي مسؤول مباشرة أمام السلطان (ومن هنا دُعي النظام بالمتصرفية)، وهو النظام الذي أعاد إلى لبنان الحكم الذاتي داخل إطار الامبراطورية العثمانية، وقد اتصف هذا النظام أيضًا بالصفة الطائفية والدينية التي عمل على إقرارها وتثبيتها حتى نشوب الحرب العالمية الأولى.
الاحتلال الفرنسي للبنان:
وفي أثناء الحرب ألغت الحكومة العثمانية استقلال لبنان الإداري وجعلت عليه حاكمًا عسكريًا من قبلها. وقد اتسمت تلك الفترة من الحكم العثماني التي مثلّها جمال باشا السفاح بالقسوة والاستبداد والظلم واستمرت الحال على ذلك إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الامبراطورية العثمانية ودخول الجيوش الفرنسية إلى لبنان واحتلاله عام 1336هـ/1918م.
منقول