المناسبة بين الفواصل القرآنية وآياتها
مع نماذج تطبيقية من سورة البقرة
مدخل:
والفاصلة في اصطلاح أرباب الدراسات القرآنية يشيع إطلاقها على آخر كلمة تختم بها الآية - مع فارق التنظير - كقافية الشعر وقرينة السجع[1].
على أنَّ الإجماع منعقد على عدم تسمية الفاصلة قافية كما حكاه السيوطي؛ إذ قال: "ولا يجوز تسميتها قوافيَ إجماعًا؛ لأنَّ الله تعالى لَمَّا سلَب عنه اسمَ الشعر، وجَبَ سَلْبُ القافية عنه أيضًا؛ لأنَّها منه وخاصة في الاصطلاح، وكما يَمتنع استعمال القافية يَمتنع استعمال الفاصلة في الشعر؛ لأنها صفة لكتاب الله، فلا تتعدَّاه"[2].
وأما تسميةُ الفواصل القرآنية أسجاعًا، وإطلاق لفظ السجع عليها، فإن جمهور العلماء قد منعه، وهو المتعين؛ وذلك لأنَّ أصل إطلاق السجع في اللغة كان على صوت الحَمام إذا سجع؛ أي: هدل على جهة واحدة[3].
وقد تَنزَّه القرآن الكريم عن أن يُستعار لشيء منهُ لفظٌ هو صوت الطائر، ثم إن من السجع ما يطلق على مذموم الكلام كسجع الكُهَّان، وأصل المنع في ذلك راجع إلى أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفاته، فلا يجوز وصفه بصفة لم يَرِد الإذن الشرعي بها؛ لأن ألفاظ أسماء الله تعالى وصفاته وما يتعلق بها توقيفية، وليس للاجتهاد البشري فيها مَكنة ولا مجال[4].
ومصطلح الفاصلة مُغرق في القِدم، فقد عرفه أعلام العربية؛ كالخليل بن أحمد الفراهيدي ت 175هـ، فأطلقه هو وتلميذه سيبويه ت 180هـ على مقاطع القرآن، ثم استقرت دلالته على أواخر الآيات في طبقة الجاحظ ت 255هـ إلى أن استوى هذا المصطلح على يد أبي الحسن الأشعري ت 324هـ، وتلميذه أبي بكر الباقلاني ت 403هـ[5].
وأصبح الناظر في إعجاز القرآن الكريم والواقف على مظاهر بلاغته، يتناول هذا المصطلح ويُبرز لطائفَ البلاغة فيه، وذلك في أغلب البحوث التي تطرَّقت إلى بيان القرآن الكريم[6].
نماذج تطبيقية من سورة البقرة:
النموذج الأول:
قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].
أولاً: التفسير الإجمالي للآية:
يقول د وهبة الزحيلي: "هذا الكتاب لا رَيْبَ فيه: لا شك في أنه من عند الله هداية ورشادًا للمتقين الذين وَقَوْا أنفسهم مما يضرها، فالتزموا الأوامر الإلهية، وتجنَّبوا النواهي والمحظورات"[7].
ثانيًا: التحليل النحوي للفاصلة:
خصَّص الله عز وجل كتابه وأخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فالخبر يُخصص المبتدأ ويكون وصفًا له؛ مما يؤكد أن هذا الكتاب هدى للمتقين فحسب، وليس هدى لغيرهم، وقوله: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، فهدى خبر للمبتدأ ذلك، وللمتقين جار ومجرور متعلق بمحذوف مرفوع نعت لهدى، والتقدير: هدى مستقر أو ثابت أو حاصل للمتقين.
ثالثًا: مناسبة الفاصلة:
جاءت هذه الفاصلة مناسبة لدلالة التخصيص التي في الآية، فالفاصلة جاءت في كلمة المتقين - وهي لفظة مخصوصة تدل على نوع معين من الناس - فناسَب تخصيصُ الفاصلة تخصيصَ الهدى بالمتقين فحسب.
النموذج الثاني:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3].
أولاً: التفسير الإجمالي للآية:
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: "إن أولئك المتقين هم الذين يُصدقون بجميع ما ُأنزِل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ويُصدقون أيضًا تصديقًا جازمًا لا شك فيه بالآخرة، وما تضمُّه من بَعْثِ الأجساد والأرواح معًا من القبور، وحساب وجزاء، وميزان وصراط، وجنة ونار، وهؤلاء الموصوفون بما ذكر من الإيمان الحق بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بالقرآن وبالكتب المنزلة قبله - (وهي التوراة والإنجيل والزبور والصحف) - هم على نور وهداية من ربهم، وعلى منزلة عالية عند الله، وهم الفائزون بالدرجات العالية في جنات الخلود"[8].
ثانيًا: التحليل النحوي للفاصلة:
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾: (ومما) الواو حرف عطف، ومما جار ومجرور متعلقان بـ(ينفقون)، و(رزقناهم): فعل ماض، و(نا) ضمير متصل في محل رفع فاعل، و(هم) ضمير متصل في محل نصب مفعول به، وجملة (رزقناهم): لا محل لها من الإعراب؛ لأنها صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: رزقناهم إياه، (ينفقون) فعل مضارع مرفوع معطوف على (يُقيمون) داخل في حيِّز الصلة، وفي استخدام الفعل المضارع (ينفقون) دليل على تجدُّد واستمرار الإنفاق.
ثالثًا: مناسبة الفاصلة:
جاء جمال الفاصلة هنا في التقديم والتأخير؛ حيث قدَّم الإنفاق على غيره من صفاتهم؛ لأنه وصف إيجابي يدل على صفاء نفوسهم، وقوة إخلاصهم، فإن المال شقيق الروح، فإذا أنفقوه في حالتي السراء والضراء، كان ذلك دليلاً على التزامهم العميق بتعاليم دينهم وطاعة ربهم[9].
المصدر / الالوكه