أم المؤمنين التقية (أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان)
زارها أبوها، وهى في المدينة، فأبعدت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لها: يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عنى أم بى عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول اللَّه وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبَّ أن تجلس عليه.
قال: يا بنية لقد أصابك بعدى شر. قالت: لا، بل هدانى اللَّه للإسلام، وأنت يا أبة سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟!
إنها أم المؤمنين أم حبيبة “رملة بنت أبى سفيان” ذات الحسب والنسب والمكانة؛ فأبوها هو “أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية” وأمها “صفية بنت أبى العاص”، وأخوها “معاوية بن أبى سفيان” وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت سببًا للمودة بين النبي صلى الله عليه وسلم وآل أبى سفيان. وفى هذا نزل قوله تعاليعَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً) [الممتحنة: 7]. وعوضًا عن صبرها وإيمانها الكبير باللَّه تعالي.
كانت زوجة لعبيد اللَّه بن جحش، وكان قد تنصر في الجاهلية، ورفض عبادة الأصنام، فلما جاء الإسلام، أسرع هو وزوجته إلى الدخول فيه، لكنهما أمام جبروت قريش وقسوتها على الذين آمنوا، اضطرا إلى الفرار من مكة إلى الحبشة، وهناك أنجبا ابنتهما حبيبة، وبها كانت تُكنَّي، فيقال لها: أم حبيبة.
وفى الحبشة، ارتد عبيد اللَّه بن جحش عن الإسلام واعتنق النصرانية، وحاولت أم حبيبة وجميع من هاجروا إلى الحبشة إثناءه عن عزمه، فلم يفلحوا.
وتقص السيدة أم حبيبة تلك الواقعة، فتقول: رأيت في النوم عبيد اللَّه زوجى في أسوأ صورة وأشوهها، ففزعتُ وقلت: تغيرتْ واللَّه حاله، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة، إنى نظرت في الدين فلم أر دينًا خيرًا من النصرانية، وكنت قد دِنتُ بها ثم دخلت في دين محمد، وقد رجعتُ. فأخبرتُهُ بالرؤيا فلم يحفل (يهتم) بها، وأكب على الخمر حتى مات.
وقد حاول عبيد اللَّه بن جحش أن يجر امرأته أم حبيبة إلى النصرانية، لكنها – رضوان اللَّه عليها – أبت عليه ذلك، واستمسكت بعقيدتها وظلت على دينها.. فنجاها اللَّه بصبرها على دينها، وأبدلها عن زوجها زوجًا خيرًا منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
دخلت أبرهة خادمة النجاشى ملك الحبشة عليها، وقالت: ياأم حبيبة إن الملك (تقصد النجاشي) يقول لك إن رسول اللّه كتب إليه ليزوجك منه (. قالت أم حبيبة: بشَّركِ اللّه بخير يا أبرهة، خذى هذه منى هدية. وأعطتها سوارين من فضة وخلخالين.
فأرسلت أم حبيبة إلى خالد بن سعيد بن العاص ابن عمها لتوكله في أمر زواجها من رسول اللّه .
ولما دنا الليل أمر النجاشى “جعفر بن أبى طالب” ومَنْ هناك مِن المسلمين فحضروا فخطب النجاشي، فقال:
الحمد للّه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لاإله إلا اللّه وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام. أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان فأجابت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها أربعمائة دينار. ثم سكب النجاشى الدنانير بين يدى القوم.
وتكلم “خالد بن سعيد” وقال: “الحمد للّه، أحمده وأستعينه وأستنصره، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون. أما بعد: أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوَّجتُه أم حبيبة فبارك اللّه لرسول اللّه. ثم دفع خالد الدنانير إلى أم حبيبة فقبضَتها. ثم أرادوا الخروج لكن النجاشى استوقفهم وقال: “اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يُؤْكل طعام على التزويج”. ودعا بطعام فأكل الحاضرون ثم تفرقوا.
تقول أم حبيبة: فلما وصل إلى المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتنى فقلت لها: يا أبرهة! إنى كنت أعطيتك ما أعطيتُ يومئذٍ ولا مال عندى بيدي. فهذه خمسون مثقالا فخذيها واستعينى بها. فأبت أبرهة، وأخرجتْ حُقّا فيه كلُّ ما كنتُ أعطيتُها فردّته علي، وقالتْ: عزم على الملك أن لا آخذ منكِ شيئًا وأن ا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعتُ دين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت للّه -عز وجل-.
وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليكِ بكل ماعندهن من العطر. فلما كان الغد جاءتنى به. فقدمت بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يراه على وعندى فلا ينكره. ثم قالت أبرهة: يا أم حبيبة حاجتى إليك أن تقرئى على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام منى وتُعلِميه أنى قد اتبعتُ دينه. ثم لطفت بى وكانت هي التي جَهَّزتني. وكانت كلما دخلت على تقول: لا تنسى حاجتى إليك.
فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخِطبة وما فعلت بى أبرهة، فتبسم وأقرأته منها السلام، فقال: “وعليها السلام ورحمة اللّه وبركاته” [ابن سعد].
وفى ليلة الزفاف أقام عثمان بن عفان -رضى اللَّه عنه- وليمة في عرس النبي صلى الله عليه وسلم وأم حبيبة -وهى ابنة عمة عثمان : صفية بنت أبى العاص- هذه الوليمة كانت غير تلك التي أقامها النجاشى في الحبشة عند عقد النكاح.
ولما بلغ أبا سفيان بن حرب خبر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته قال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه (أى الرجل الصالح الذي لا يُرد نكاحه). وقد أحبت أُمُّ حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حبّا شديدًا، وآثرت محبته على كل محبة أخري، حتى ولو كانت محبتها لأبيها أو أبنائها أو إخوانها أو عشيرتها.
وكانت أم حبيبة – رضى اللَّه عنها – تحرص دائمًا على مراقبة اللَّه – عز وجل – وابتغاء مرضاته، فقد روى عن السيدة عائشة – رضى اللَّه عنها – أنها قالت: دعتنى أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يحدث بيننا ما يكون من الضرائر، فغفر اللَّه لى ولك ما كان من ذلك. فقلت: غفر الله لكِ ذلك كله وتجاوز وحلَّك من ذلك كله. فقالت: سررتِنى سركِ الله، وأرسلتْ إلى أم سلمة – رضى اللَّه عنها – فقالت لها مثل ذلك.
هذا وقد أسلم أبوها أبو سفيان في فتح مكة، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لمن دخل داره.. ففرحت أم حبيبة بإسلام أبيها فرحة كبيرة، وامتد بأم حبيبة العمر حتى عَهْدِ أخيها معاوية بن أبى سفيان وتوفيت في سنة أربع وأربعين للهجرة فرضى اللَّه عنها وأرضاها.
وروت -رضى الله عنها- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستين حديثًا، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين -رضى الله عنهم أجمعين
منقول