نظراً لأنّ المساجد العثمانية في بلادنا تعرّضت للتخريب و التّهديم، ونظراً لأنّها عانت الكثير من بطش الاستعمار الفرنسي الذي حاول بكلّ الطرق و الوسائل إخراجها من طابعها الدّيني الأصيل إلى طابع الخراب و التّشويه، كان من بين هاته المساجد مسجد الباي محمد بن عثمان الكبير الذي عانى الكثير من الاستعمار الفرنسي الذي حاربه بكلّ أنواع الفرص المُتاحة، لأجل ذلك عند دراستنا لهذا المسجد لاحظنا أنّه قد ضيّع الكثير من معالمه الفنّية الجمالية ذات الطّابع الدّيني التّركي، فحاولنا أن نّسلّط دراستنا على الشيء القليل الذي لا زال صامداً رغم كلّ ما يُعانيه من إهمال و لا مبالاة.
أوّلاً: تأسيسه :
تعتبر إصلاحات الباي محمد الكبير في مدينة وهران أكبر حافزٍ للنُّهوض بهذه الحياة و أهمّ مُستحقٍّ للدراسة وذلك نتيجة للأهمّية التي أولاها هذا الباي للجانب الثقافي و تشييده لمؤسّسات ثقافية خاصة .إنَّ أعمال الباي الكبير لم تقتصر على جمع الكتب و اقتنائها و إيفاء البعثات من أجل الدراسة ، بل شيَّدَ إنجازات حضارية هامّة ساهمت في رفع حركة التَّعليم
و الثَّقافة من أهمِّها المدرسة العظيمة التي بها ضريحه و تعرف الآن بالمَدَّرسَة أو مدرسة خنق النطاح .
ففي سنــة 1792م ومباشرة بعد تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، قام الباي محمد بن عثمان الكبير ببناء مسجد صغير يحمل اسمه يكون مقبرةً له و لأفراد عائلته بعد وفاتهم.
وفي هذا الصدد يقول بن عودة المزاري : « ... ولمّا طار خبر وفاته لأهل الجزائر سنة 1799م بعثوا لابنه عثمان خليفته و هو أكبر أولاده بالمملكة،فركب فوراً و حثَّ السَّير إليهم حثيثاً بعدما بعث أباه بوهران و أوصى على دفنه بالمدرسة التي بالموضع المسمَّى بخنق النّطاح من وهران ...».
لقد بُني هذا المسجد في سهل خنق النِّطاح إلى الشَّرق من مدينة وهران القديمة على حوالي كيلومتر و نصف تقريباً، ولا يبعد كثيراً عن المنحدر الذي يُشرف على البحر و الميناء البحري شمالاً، وقد بُني على أرضٍ سهليةٍ منبسطةٍ واسعة، خاليةٍ من العمران بعيدة كلَّ البُعد عن المدينة القديمة وهران بمسافة طويلة، و هوحالياً بموازاة شارع جبهة البحر (Front de mer)في شارع(Tripoli) قرب سوق ميشلي المخصَّصِ للخضر و الفواكه، وتفصل بينه و بينها عمارات حديثة و شاهقة استحدثها الفرنسيون مؤخَّراً.
لقد بنيَ هذا المسجد على شكلٍ مستطيلٍ، نصفه الشرقي قاعة متوسّطة الحجم و شبه مربَّعة، ونصفه الغربي تتوسَّطه ساحة صغيرة بها نخلة و بعض الحشائش، وهي محاطة بسياج من الآجر و نافورة من المياه.
و في الزَّاوية الشرقية للقاعة توجد منارة متوسّطة العلوِّ ومربّعة الشّكل، ووراءها إلى الغرب بيت صغير إقتطع من القاعة الرئيسية يتَّخذه الإمام حاليا مقراً له و لإعداد خطبه و دروسه، و إلى يسار المنارة و بيت الإمام يوجد بيت متوسِّط الحجم في مقدمة المسجد شرقاً به حالياً آثاثٌ قديمٌ و يُعتَقدُ أنَّه كان مثوى و قبر للباي محمد الكبير مؤسّس المسجد، و في مؤخِّرته توجد أماكن للوضوء يبدو أنّها حديثة و لم تكن سابقاً و هي موجودة في ناحيته الغربية.
و بـعد احتلال فرنسا للجزائر و دخولها إلى مدينة وهران سنة 1832م، حوَّلَ العدوّ الفرنسي هذا الضّريح أو هذا المسجد إلى مسكن تداول عليه عدد كبير من الأوربيون ذوي الأصل الإسباني الذين أحدثوا بعمارته الدينيّة تغيِيرات كبيرة، وجعلوه مربطاً للحيوانات ( الخنازير ) كما فعلوا بمسجد سيدي حسن أو مسجد المبايعة بمدينة معسكر و بمساجد أخرى تُعَدُّ بالمئات في كلّ أنحاء الجزائر و مدنها و قراها، وذلك في إطار إهانة الجزائريين المسلمين و إذلال دينهم الإسلامي و تدنيس مؤسَّساته المقدَّسة الطاَّهرة .
و بعد الحرب العالمية الثانية أخذ النُّواب الأهالي في المجلس البلدي لمدينة وهران يُطالبون بفتح مقبرة "مول الدُّومَة" في حي رأس العين للدفن بعد أن أغلقت، وما إن فتحت حتَّى تمَّ نقلُ ضريحي الباي محمد الكبير و شقيقه الباي محمد الصّغير الملقَّب بأبي كابوس إليها. وتمَّ المطالبة باسترجاع مسجد الباي إلى حاضرة الإسلام و المسلمين، وكان المتزعِّم لهذه المطالب النَّائب " المكي بن زغود " الذي كان متزوجاً إبنة مدير جريدة "صدى وهران" ( D’OranL’écho ) و أصله من مدينة الغزوات، وعندما حصل على هذين المطلبين سلَّمَ مفتاح مسجد الباي محمد الكبير إلى الشَّيخ المصلح " الطَّيب المهاجي" الذي استعان بالرِّجال المصلحين الذين قاموا بتنظيفه من الأوساخ و القاذورات و رمَّموا ما تخرَّب منه، و أصلحوا بيوت الوضوء و عَيَّنَ الشيخ الطّيب المهاجي أحد تلاميذه إماماً عليه و يُدعى الشيخ "محمد الفليتي"، و تمَّ افتتاحه في حفلٍ بهيجٍ يوم الأحد الذي هو يوم عطلة آنذاك يُناسب حضور كلِّ المعنيين.
ولقد حاول حينها المعمِّرون الأوربيون السّاكنون بحي خنق النطاح المساس بهذا المكان المقدَّس و تعطِيله عن مهامّه الديني، فقد منعوا على إمامه الآذان حتّى لا ينزعج الأوربيون القاطنون حوله في العمارات المحيطة به، ثمَّ أسَّسوا عمارات شاهقة مجاورة له من أوقافه العقارية من طرف " شركة الجرف " "La Compagnie des dragages " التي أنشأت مينائي وهران و المرسى الكبير الحديثين، كما حاولت ا منظّمة اليد الحمراء نسف هذا المسجد بقنبلة في سنة 1956م .
كذلك حاولت السّلطات الاستعمارية تهديمه من أجل تعمير الحي، فقد طلبت من الأسرة ذات الأصل التركي المالكة لهذا المسجد ( هي أسرة باشتارزي ) التّوقيع على التنازل عن المسجد مع التَّعويض بمساحة في مكان آخر، لكنّها رفضت ذلك واحتجَّ المسلمون إلى السُّلطات العسكرية و لم يجد وزير الحربية فائدةً من إثارةِ المسلمين الجزائريين بوهران، فقرَّر إعادة الضَّريحين إلى مكانهما و الاحتفاظ بالمسجد كمعلم تاريخي مصنَّفٍ منذ 24 ديسمبر 1903م بناءاً على اللّوحة التذكارية الموجودة فوق باب المسجد على شكل معين مكتوبة باللّغة الفرنسية ، مُحاطةٌ بكتابة باللغة العربية وهي :
« لا إلٰه إلا الله و لا يدوم إلا ملك الله » مكرّرة مرّتين .
« لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله » مكرّرة مرّتين .
وفوق اللوحة الكبيرة لوحتين صغيرتين على اليمين و على اليسار مكتوب على كلّ واحدةٍ منهما :
« الحمد لله » .
اللوحة الكبيرة نصها بالفرنسية
Vieille Mosquée
Mohamed El Kebir
Emplacement du tombeau de
Mohamed el kebir bey d’oran en 1791 prit sous sa protection les 80 familles de la ville a l’arrivée des armes turques , mort vert 1799
Monumemet historique,m,n arête du g.g 24-12-1903
وترجمتها بالعربية هي:
مسجد محمد الكبير
هذا ضريح محمد الكبير، باي وهران سنة 1791م أخذ على ذمته حماية 80 عائلة الموجودة بالمدينة أثناء وصول الجيش التركي , توفي حوالي سنة 1799م "
بناية تاريخية بقرار من الحاكم العام للجزائر
24 ديسمبر 1903م
ثانياً : التجديدات التي أدخلت عليه :
عرف مسجد الباي محمد الكبير كغيره من المساجد في الحواضر الجزائرية العديد من الإصلاحات و الترميمات و التجديدات عبر الأزمنة المختلفة، ففي سنة 1930م تعرض هذا المسجد لبعض الترميمات و الإصلاحات من الداخل و الخارج أدَّى ذلك إلى تغيير المسجد و إزاحته بعض الشيء عن طابعه الأصلي القديم.
وبـعد استقلال الجزائر أصبح مسجد الباي و على غرار المساجد الجزائرية الأخرى تحت رعاية وإدارة وزارة الشؤون الدينية التي تبنت و تبنَّى الشعب معها مهمَّة إعادةِ الوجه الإسلامي إليها و إلى كلِّ البلاد و مؤسَّساتها.
أمَّا مسجد الباي فقد فتح للصَّلاة كما كان سابقاً، و أدخلت عليه عدَّة إصلاحاتٍ نجملها فيما يلي :
1 : أُزِيلت الساحة الداخلية ، و اقتلعت النّخلة التي كانت داخلها وضمت إلى ساحة قاعة الصَّلاة، ووضع لها سقف من أخشاب طويلة مصفَّحة هذه بجانب الأخرى، وبذلك توسَّعت قاعة الصَّلاة كثيراً حتّى شملت أغلب مساحة المسجد .
2 : استحدث للمسجد مدخل ثانوي على يساره الشمالي يستعمله النساء للدخول إلى المسجد يوم الجمعة و الأعياد، كما استحدث مدخلٌ آخر على اليمين في مؤخِّرة المسجد تقريباً إلى الجنوب يفتح عند اكتظاظ المسجد بالمصلَّين كذلك يوم الجمعة و الأعياد .
3 : استحدث منبر للخطابة يوم الجمعة وضع في البيت الوسطى الأمامية التي كانت في الأصل مقبرة الباي محمد بن عثمان الكبير و مدفنه، و استحدث باب إلى يسارها يؤدَّي إلى البيت المجاورة على اليسار والتي لها باب في الغرب قديم ما يزال قائماً و يُفتح يوم الجمعة ليصلَّي فيه النَّاس، أمَّا البيت الموجود على اليمين إلى الأمام فقد اتّخذها الإمام الحالي بيتاً له، وبداخلها شرقاً باب يؤدّي إلى منارة المسجد .
4 : أغلقت الباب الدَّاخلية خلف المسجد التي تؤدِّي إلى المراحيض و أماكن الوضوء و استحدثت باب خارجية غرباً وراء المسجد لها و ذلك تفادياً لاتِّساخ قاعة الصّلاة بالماء والقاذورات و المخلَّفات اللاّصقة بأرجل المصلِّين المتوضِّئين، فكان ذلك كلُّه جهود
ومساعدات على نقاوة المسجد و بقائه نظيفاً .
بكلِّ هذه التَّحسينات و الإصلاحات، أصبح مسجد الباي حالياً تحفةً فنّيةً إسلاميّةً رائعةً يعجُّ بالمصلّين و المتعبّدين كلّ يوم و في كلّ صلاة رغم صغره، كما يعطي للحي الذي يقع فيه رونقاً و جمالاً و مسحةً إسلاميّةً هو بحاجة إليها، و ذلك نظراً للطَّمس و التَّخريب الذين تعرَّضت لهما مدينة وهران خلال العهد الاستعماري الطَّويل الذي دام قرابة أربة قرون بشقّيه : الإسباني، الفرنسي، و نظراً إلى خلوِّ الحي من أيِّ مسجد عداه.
ولكن وبـعد استقلال الجزائر أصبح مسجد الباي و على غرار المساجد الجزائرية الأخرى تحت رعاية وإدارة وزارة الشؤون الدينية التي تبنت مهمَّة إعادةِ الوجه الإسلامي له و إلى كلِّ مساجد البلاد.
منقول