أسباب لتمرد الجيل:
تقديس المادة:
لم تَعُد الحياة مُبهِجة لأولادنا إن لم يُنفِقوا الأموال! ربطنا أبناءنا بالأشياء، فلا تتم فرحتهم إلا بالسيارة الفارهة والسفر إلى البلاد الأوربية والأكل في المطاعم الفاخرة، وبالهدايا الثمينة.
القيمة فقط للمادة، وإذا لم ندفع ونبذخ ما حصلنا على السعادة، لا قيمة للعواطف، لا قيمة للحب، لا قيمة للدفء العائلي، فنرى الأبناء يتذمَّرون ويتمرَّدون ولا ينصاعون إلا إذا وعدوا بالمال، وكأنهم يقولون: "أعطني أُطِعْك"، "وفِّر لي مصروفي أحترمك"، "زدني أكثر أزدد لك حبًّا"، وعندما يأخذون المال يَنسون وعودهم!
وعزَّ*** عندهم هذه الأفكار: "المال يَجلِب السعادة، المال وحده هو القوة الفاعلة"، ولأجل هذا أصبح المال مبلغ عِلمهم وعملهم، وخرجوا عن سيطرتنا.
وإليك المفاهيم والأخطاء التي أوصلتْهم إلى هذا الاستهتار:
1- وظيفة الآباء دفع النقود، ووظيفة الأبناء إنفاقها! أبناؤنا اليوم يَرفضون أي وصاية لنا عليهم! والأب الذي يأتي بالنقود لا قيمة له، القيمة للنقود فقط، فما دورنا إذًا في حياتهم؟ "الخدمة فقط وضخ الأموال؟!"، تعلَّم الأبناءُ: "واجب الآباء الإنفاق"، ولم يتعلَّموا معها "واجب الأبناء الطاعة والبر"، وهذا أسوأ جزاء أقابل به: أحمل وألد وأسهر الليالي وأربي وأُدرِّس وأقدم ابني على نفسي في كل شيء، حتى إذا أخذ حاجته مني، وأمَّن مصروفه تنكَّر لي، وبدأ يتمرَّد علي!
ثم ألا ينبغي أن يشعر الابن بشقاء أبيه وبصعوبة الحصول على المال؟ الأب يكدح أسبوعًا ليهدر الابن المال في طرفة عين على الكماليات التافهة، ولا يكون شاكرًا ولا مُقدِّرًا، متصورًا أن "المصروف" واجب على الأب وحق خالص للابن.
ولو علم الابن قيمة أبيه لقدمه على المال وما تمرَّد عليه.
وحين يُقدِّس الابن المادة يَفقِد الرُّوح الحلوة، ويَفقِد العواطف، ويدع البرَّ والمرحمة ويصبح جمع المال همه، ويحترم مَن يَملِكه وينصرف عمن لا يحوزه، وقد يَنصرِف عن الانصياع لوالديه لقلة مواردهما!
نُهمِل تعليم "القيم" للأبناء، ونقلب المفاهيم البديهية الصحيحة، ونَستغرِب بعدها خروج الجيل عن السيطرة.
2- الاعتناء بالمظاهر واحترام الغني واحتقار الفقير أفسد الجيل، وبعض الأبناء يُقيِّم نفسَه والآخرين بموديل ساعته وحداثة جواله ومكان سكنه، والأمهات يُعزِّزن هذه المفاهيم ويدفعون الأولاد للنظر إلى من فوقهم، وإلى حب الدنيا والتمسك بمتاعها الزائل وزخرفها وزينتها، والاهتمام بالكماليات، وإني لأتساءل: "حين يلبس ابني ساعة فاخرة، وحين تحمل بنتي شنطة ثمينة، هل يرتفع مقامها؟"، في الحقيقة يرتفع صانع الساعة ومُصمِّم الشنطة ويصبح مشهورًا ومليونيرًا، وبنتي خسرت مالها وخسرت قيمتها الإنسانية؛ لأنها وافقت أن يقوِّمها الناس بما تلبَسه وبما تحمله، وأنا خسرتُ ابنتي؛ لأنها اتبعت أمثاله واتخذته قدوة.
والعجز عن مجاراة الأغنياء ولَّد "عقدة نقص" لدى الأبناء، فصاروا يتظاهرون بالغنى! وعجز بعض الآباء عن تحقيق طموحات أبنائهم المادية أوجد شرخًا كبيرًا في العلاقة بين الجيلين، وقلَّل من قيمة الآباء في نظر أولادهم، وأخرج الأبناء عن سيطرتهم.
انظري للعرف السائد: "معك قرش قيمتك قرش"، وتخيلي ابنًا يسمع هذه العبارة كل يوم: "المال يشتري كل شيء"، كيف ستكون أفكاره؟ سيضرب بالقِيَم والأعراف ويخرج عنهما، ومثل هذا لا يَستهجِن الحصول على الثروات من أي طريق!
فأبعِدوا أولادكم عن هذه المؤثِّرات، وغيِّروا مدارسهم، وبدِّلوا أصدقاءهم لو استدعى الأمر، وإلا خسرتُم أولادكم بسبب تطلُّعاتهم المادية!
3- التكنولوجيا تحت تصرُّف الأبناء بلا مراقبة، وإننا - مُجاراة للعصر - أتينا بالتكنولوجيا المتقدِّمة، ووضعنا كل الاتصالات بين أيدي أولادنا، وهم أعرف منا بها، وهذه مفسدة عظيمة، وأعطينا لكل صغير جوالاً! لماذا؟ ما فائدة الجوال للصغير؟ سيضر صحته ويُشجِّعه على الاتصال بلا داعٍ، وسيتَّصِل به المعاكسون، وقد يؤدي ذلك لما لا تُحمَد عقباه، ستقولين: "الجوال مهم لأطمئن عنه إذا ابتعد"، ولكن لماذا يخرج الصغير وحيدًا؟ هذا خطر عليه، وفي المدرسة الجوالات ممنوعة، وهي تتناقض مع الجدية، وفي المدارس مواعيد الحضور والانصراف ثابتة ومحددة ومعروفة، وعند الطوارئ الهاتف مُتوفِّر لدى المدير والوكيل، وكلنا عشنا طلابًا بلا جوالات، ومشت الأمور كأحسن ما يكون، فلماذا يَملِك الصغير هاتفًا محمولاً؟ ليَسهُل إغواؤه؟ ليكلم مَن يشاء وقت يشاء ونحن لا ندري؟ ليتعود على الخصوصية والسرية ويخرج على السيطرة؟
ونشترك في خدمة النت السريع، ونضع الأجهزة الحديثة بين أيدي الأبناء، والتلفزيونات في غرف نومهم، ولا ندري ماذا يتابعون، وبأي الأفكار يتأثَّرون، فما النتيجة بربكم؟
نضع الشرور بين أيدي أبنائنا، ونشتري لهم كل ما يُشجِّعهم على التمرد والفساد، ثم نَصرُخ يا ناس: "خرج هذا الجيل عن السيطرة وفسد"!
4- إبقاء المال بين يدي الأبناء خطأ جسيم، ونحن - وخوفًا على شعور أبنائنا بالحرمان - جعلنا لهم مصروفًا فوق حاجتهم، وأبقينا مالنا بين أيديهم يَغرِفون منه كيفما شاؤوا، ونسمح لهم بصفق الباب والخروج والمال معهم، وهم صغار أغرار، والسوء متفشٍّ والمغريات كثيرة، فماذا سيفعلون برأيكم؟
بالطبع: "سيُسرفون ويَفسُقون ويخرجون عن السيطرة".
حقًّا: "المال مبطرة ومفسدة"، وسوف يستعملون المال في التباهي والتفاخر والتكبر والتمرد، وكلها "أعراض الخروج عن السيطرة".
المال عزوة وقوة ومَنَعة، فيجب أن يكون معكِ أنتِ، ولا تضعي المال بين يدي أبنائك بلا حساب فيتقووا به، وإلا خرجوا عن طوعك وفقدتِ السيطرة عليهم.
ويلحق بتقديس المادة تقديس الشهادة العالية:
5- الاهتمام الفظيع بالتحصيل الدراسي وحصْر الحياة بالشهادات والمناصب أفسد الأبناء؛ ولأن "الشهادة" ترفع المستوى الاجتماعي وتَجلب الأموال صارت مُقدَّمة على "الدين" و"الخُلُق" وعلى تَعلُّم مهارات الحياة كلها.
ورُغم أن "التوازن" و"الأولويات" من سمات المربي الناجح، فإن أكثر المربين يعطون الدراسة كل الاهتمام، ولا يدَعون شيئًا لسواها، إنها "الهدف الأسمى والأعلى" في الدنيا، ويجب التسابق إليها دون المعالي كلها، والتضحية والتفاني من أجلها وحدها.
عَلَّموهم ولَقَّنوهم "قدسيَّة الشهادة" و"أولوية الشهادة" في السن التي يتعلَّم فيها الأبناء الحب، ويأخذون فيها القيمَ، ويتدربون على المهارات، فكانت النتيجة:
أ- الأبناء لا يعرفون شيئًا عن اللباقة والذوق وآداب التعامل مع الناس، وليست لديهم خبرة بالحياة، ويفتقدون الحكمة والذكاء العاطفي، ولا يعرفون مهماتهم المستقبلية (الطبخ، شراء المستلزمات)، ولا يعرفون الأحكام الضرورية التي تُصلِح دينهم وخُلُقهم، والجهل تربة خِصبة للتمرد.
ب- امتنع الأبناء عن بِرِّ أمهم لا يُساعدونها، ولا يتفقَّدون شؤونها وهي معهم في البيت نفسه، ويتوقَّفون عن زيارة أقربائهم أثناء العام الدراسي ويقطعون أرحامهم، ويرفضون كل نشاط خارج الكتب المدرسية؛ أي خرجوا عن المألوف وعن الحياة الاجتماعية الطبيعية.
ج- ومن أجل الشهادة العالية يضعون أبناءهم في المدارس الأجنبية، ويُعلِّمونهم اللغات الأخرى قبل اللغة العربية، ويجعلونهم بذلك - وبطريق غير مباشر - يقتبسون كل دخيل وغريب ويزدرون ديننا وعاداتنا وقيمنا، ثم يزدرون أهاليهم ويَستخفُّون بهم.
د- جعلوا التفوق الدراسي والشهادة العالية "الدليل" على الذكاء الخارق للأبناء وعلى وعيهم ونجاحهم في العمل والحياة، وبالشهادة يتفوَّق الابن على الجميع، بمن فيهم والداه، ويَحِق له إملاء رأيه وفَرْض شروطه.
ح- وبسبب تقديس الدراسة أصبح السفر لأجلها ضرورة لا يُستغنى عنها، وتُختار الجامعة ذات السمعة "القوية علميًّا"، ولا يُسأل عن وضْعها الأخلاقي، ويُسافر الابن (الفتي الممتلئ بالحماس) وحده، ويتعوَّد الفردية ويخرج عن طوع أهله، حتى إذا تخرَّج ازداد صلفًا، وسمعنا قصصًا عمن ألحدوا أو تزوَّجوا بمن لا تَصلُح، ورفضوا العودة إلى أهليهم.
وتقديس الدراسة أخرج البنات عن السيطرة، فيخترن ما شئن من الجامعات والتخصصات والمهن، والأهل لا حول لهم، ويَعِشن في البيت على هواهن بزعم "التفرغ للدراسة"، فلا يُشارِكن أهل البيت في بعض الأنشطة (كتناول طعام العشاء)، ويرفضن الزواج ويَصرِفن الشاب الكفؤ، والأهل راضون ساكتون إكرامًا لسعادة "الشهادة".
ولاحظي كيف ينصاع أبناؤنا لقوانين الحياة، مثلاً: "لا نجاح بلا دراسة"، فينكبُّون على الكتب، ويُضحُّون بملذَّات الحياة ومُتَعها ويتركون السهرات الحلوة ويهجرون الأسواق ويستغنون عن النزهات، فلم لا ينصاعون للقوانين الأخرى، ولا يهتمون بالدين والقِيَم وبطاعة الوالدين اهتمامهم بالشهادة؟
الأم هي السبب في اهتمامهم بالدراسة وترْكهم ما سواها! أرأيت مدى قوتك أيتها الأم! ولو أنك ربيتهم على الخُلُق، وزرعت فيهم القيم لما خالفوها ولما خرجوا عن السيطرة.
ولن يرجع أبناؤنا للصواب إلا بعودة التقوى والقيم.
ومن هنا يبدأ الإصلاح، ولن نتمكَّن من إصلاح الجيل كله دفعة واحدة، أما إصلاح الأبناء، وإحسان تربيتهم ففي متناول كل مربٍّ مُهتم.
ولكن أكثر الأمهات بِتْنَ يَخَفْن من عملية التربية، ويرينها "المهمة الصعبة العسيرة على التنفيذ"، ولا ينجح فيها إلا القليل، ولن يُحسِنها إلا ثُلَّة ممن رضي الله عنهم! وتحتاج لعلم وتَخصُّص، خاصة بعدما وصل الوضع إلى ما هو عليه، وأينما توجَّهت أسمع الشكوى من "تغيُّر هذا الجيل وتَعذُّر السيطرة عليه".
منقول