لقد تميزت مدن الأندلس في عهد المسلمين بالتحضُّر والتقدم والتطور، وما زالت الآثار الخالدة الباقية فيها إلى يومنا هذا دليلًا دامغًا وبرهانًا ساطعًا على ما شهدته من حضارة مزدهرة. ويطيب لنا في هذه السطور أن نتحدث عن واحدة من أهم المدن الأندلسية من حيث تاريخها وحضارتها ومعالمها. وما الحديث عن المدن الأندلسية من قبيل البكاء على الأطلال أو اجترار الماضي المجيد، وإنما يُقصد منه أخذ الدروس واستخلاص العبر في زمنٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى التكاتف والتلاحم والتجمع ونبذ جميع مظاهر الفرقة والتشتت والتشرذم. هذا بالإضافة إلى استحضار جانب من حضارة المسلمين في الأندلس التي أقاموها على أساس متين؛ ألا وهو الفكر الإسلامي العادل الحر الذي يساوي بين جميع أفراد المجتمع على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وأفكارهم وتوجهاتهم.
وتعد مدينة بلنسية أو فالنسيا Valencia ثالثة كبريات مدن إسبانيا بعد مدريد وبرشلونة، وكانت قاعدة من أعظم قواعد الإسلام في الأندلس، وحاضرة مملكة بلنسية، إحدى ممالك الطوائف الأندلسية، والتي ما زالت آثارنا الإسلامية بها شاهدة على عظمة ما خلفه المسلمون من تاريخ وحضارة.
الموقع الجغرافي لمدينة بلنسية:
بلنسية مدينة، يلفظ اسمها بسين مهملة مكسورة، وياء خفيفة. وتسمى بلنسية أيضًا (مدينة التراب)، ربما لخصوبة تربتها، و(مطيب الأندلس)، لكثرة رياحينها، و(بستان الأندلس)، لتنوع أشجارها وكثرتها.
تقع مدينة بلنسية في شرقي الأندلس قرب ساحل البحر المتوسط على بعد أربعة كيلومترات منه، وتحدها طليطلة من الغرب، وطرطوشة من الشمال، ومرسية من الجنوب، وهي شرقي قرطبة، وشرقي تدمير. وبينها وبين تدمير أربعة أيام، ومنها إلى طرطوشة أربعة أيام أيضًا. وكان موقعها عند الفتح الإسلامي مرسى صغيرًا يسمى فالنثيا (Valencia)، وهو الاسم الذي أصبح المسلمون ينطقونه بلنسية.
تتوسط بلنسية سهلًا زراعيًا شديد الخصوبة يمتد بمحاذاة ساحل البحر المتوسط. ويرتوي هذا السهل من شبكة نهرية تتفرع من النهر الأبيض. ويعتبر أحد فروعه، وهو نهر توريا المسمى النهر الأحمر، نهرها الرئيسي. ويصب هذا النهر في البحر المتوسط شمال بلنسية.
بلنسية من أجمل مدن الأندلس:
وبلنسية خصها الله بأحسن مكان، وحفها بالأنهار والجنان، فلا ترى إلا مياهًا تتفرع، ولا تسمع إلا أطيارًا تسجع، وجوها صقيل أبدًا، لاترى فيه ما يكدر خاطرًا ولا بصرًا. وقد استغل أهلها أراضيها الخصبة في الزراعة؛ فقد زرعوا أنواع الفواكه والمحاصيل والأزهار. ومن أشهر محاصيلها: الأرز، والزيتون، والقراسيا، والزعفران، والتين، والرياحين.
واشتهرت بلنسية بصناعة النسيج الكتاني، وفيها تقصر (تصبغ) الثياب الغالية. وكان النسيج البلنسي يصدر إلى أقطار المغرب. كما كانت منتجاتها الزراعية تصدر إلى أنحاء العالم الإسلامي عبر مرساها النشط بحركة السفن التجارية. ومن أبرز ما كانت تصدره -إضافة إلى الكتان- الزعفران والقرمز.
وقد أجاد شاعر بلنسية ابن غالب أبو عبد الله الرصافي وصف مدينته قائلًا:
بـــلنســــــــــــــــــــــية تلك الزبرجدة التي *** تســـتيل عليها كـــل لؤلؤة نهـــــــرا
كـأن عروسًا أبدع الله حسنــــــــــــــــــــها *** فصير مـن شرخ الشباب لها عمـــرا
تؤبد فيـــــــها شعشعانية الضحــــــــــــــى *** إذا ضاحــك الشمس البحيرة والنهرا
تزاحــــــــــــم أنفاس الــــــــرياح بزهرها *** نجومًا فـــــــلا شيطان يقربها ذعـرا
هي الدرة البيضـــــــــــــاء من حيث جئتها *** أضاءت، ومن للدر أن يشبه الــبدرا
ويدل هذا الوصف على جمال بلنسية وغناها. أما الترف الذي لم تبلغه مدينة مثلها فيدل عليه وصف العذري لأهلها: "لا تكاد ترى فيها أحدًا من جميع الطبقات إلا وهو قليل الهمّ، مليئًا كان أو فقيرًا، قد استعمل أكثر تجارها لأنفسهم أسباب الراحات والفرج، ولا تكاد تجد فيها من يستطيع على شيء من دنياه إلا وقد اتخذ عند نفسه مغنية وأكثر من ذلك، وإنما يتفاخر أهلها بكثرة الأغاني. يقولون: عند فلان عودان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك. وقد أخبرت أن مغنية بلغت في بلنسية أكثر من ألف مثقال طيبة، وأما دون الألف فكثيرات؛ وهي أطيب البلاد وأحسنها هواء وأجملها بساتين".
الفتح الإسلامي لمدينة بلنسية:
وتعتبر بلنسية قاعدة من قواعد الأندلس؛ إذ تتبعها عدة مدن وأقاليم وقرى وحصون. وهي مدينة قديمة، أسسها الرومان سنة 139 قبل الميلاد، واستولى عليها القوط الغربيون سنة 413م.
ولما كانت بلنسية عند الفتح الإسلامي مجرد مرسى صغير، فإن المؤرخين المسلمين لم يذكروا تاريخًا محددًا لفتحها. لكن يفهم من الإشارات التاريخية أنها فتحت سنة 94هـ/ 714م على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير في عهد أبيه، وربما فتحها في أثناء ولايته على الأندلس التي دامت سنتين (95 - 97هـ/ 713 - 715م).
وأصبحت بلنسية في العهد الإسلامي مدينة كبيرة مسورة بسور متين مبني بالحجر والطوابي عليه عدة أبراج دفاعية، وفيه ثمانية أبواب، وضمت المدينة مسجدًا جامعًا ودارًا للإمارة، وعددًا من الأسواق المزدهرة، إضافة إلى الأرباض والأحياء.
وتطورت بلنسية منذ فتحها تطورًا سريعًا؛ فقد كثر سكانها من العرب والبربر في عهد الولاة (95 - 138هـ/ 714 - 755م)، إلا أن ملامحها الإدارية لم تتضح في ذلك العهد الذي كان عهد فتح وجهاد ضد النصارى.
بلنسية في عهد الدولة الأموية بالأندلس:
وأما في عصر الإمارة الأموية في الأندلس (138 - 316هـ/ 755 - 929م)، فقد أصبحت بلنسية مركزًا إداريًا لكورة ضمت العديد من المدن والقرى والحصون. وممن تولوا أعمالها في هذا العهد عبد الله البلنسي بن عبد الرحمن الداخل. ويبدو أن البلنسي اتخذ هو وأسرته من بلنسية موطنًا فنُسب إليها. وقد خرج على أخيه هشام الرضا الذي تولى إمارة الأندلس بعهد من أبيه، تضامنًا مع أخيهما الأكبر سليمان، وحاول أن يتولى أمر الأندلس، إلا أنه فشل، ثم توفي سنة 208هـ/ 853م. ولما تولى إمارة الأندلس عبد الرحمن الأوسط (206- 238هـ/ 822- 852م)، عين ابن ميمون عاملًا على بلنسية سنة 234هـ/ 848م. ثم أصبح عاملًا عليها في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر (300- 350هـ/ 912- 962م) عبد الله بن محمد بن عقيل، ثم تعاقب عليها عدد من العمال. وكان من أشهر قضاتها في هذ الفترة جحاف بن يُمن بن سعيد المعافري الذي استشهد في معركة الخندق سنة 327هـ/ 939م. ثم تولى قضاءها عدد من ذريته، منهم عبد الرحمن بن جحاف.
بلنسية في عهد ملوك الطوائف:
وتوالى على حكم بلنسية ولاة أمويون وعامريون، ثم تغلب عليها اثنان من العبيد الصقالبة من فتيان بني عامر بعد سقوط دولتهم، وهما مظفر ومبارك، وتقاسم الاثنان حكم بلنسية وشاطبة (399 - 408هـ) ووفد على بلنسية في عهدهما كثير من الصقالبة والموالي والبشكنس (الباسك) والفرنجة وغيرهم من العبيد الآبقين من أنحاء الأندلس، كما وفد إليها أصحاب المهن والحرف والأموال بعد أن حصنها مظفر ومبارك وجعلا لها سورًا وأبوابًا منيعة، فشيدت فيها القصور والحدائق، وازدهرت بلنسية وعم فيها الرخاء. ولم تلبث أن غدت حاضرة مملكة متسعة حين آلت إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور حفيد المنصور محمد بن أبى عامر، حين بايعه الصقالبة لحكمها سنة 412هـ / 1021م.
كانت تقع مملكة بلنسية شرق الأندلس، تجاوِرُ من طرفها الشمالي سرقسطة المحكومة لبني هود في الثغر الأعلى، عاصمتها مدينة "بلنسية"، ومن مدنها شاطبة وألمرية ولورقة وغيرها. وكانت تحاكي ما نعرفه اليوم بدول اللجوء السياسي إبّان عهد ملوك الطوائف؛ حيث احتمى بها عدد كبير من المفكرين والكتّاب والأدباء والسياسيين الأندلسيين الهاربين من بطش ملوك الطوائف، نذكر من الأسماء الشهيرة التي فرّت إليها الشاطبي وابن الآبار وابن اللبانة وابن خفاجة والرصافي وابن الزقاق، وكثير غيرهم، وقد تغنوا بها بقصائد جميلة رقيقة!
توفي عبد العزيز بن عبد الرحمن سنة 453هـ / 1061م، فخلفه ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر، الذي تزوج ابنة المأمون بن ذي النون حاكم طليطلة سنة 451هـ. وجرت بينهما أحداث انتهت بضم بلنسية وأعمالها إلى مملكة طليطلة 457هـ، وعهِد المأمون بأمور بلنسية إلى أبي بكر محمد بن عبد العزيز (ابن رويش)، وجعله وزيرًا ونائبًا عنه في حكمها. فأحسن إدارتها وضبط أمورها، وسار سيرةً حسنةً، عدلًا ورفقًا.
توفي المأمون حاكم طليطلة سنة (467ه / 1075م)، وخلفه حفيده القادر، فاستقل أبو بكر في حكم بلنسية، وجرت في عهد أبي بكر محاولات قام بها المؤتمن بن هود، صاحب سرقسطة، لضم بلنسية إلى مملكته، وكانت بين الطرفين صلات ومصاهرة؛ إذ تزوج أحمد المستعين بن المؤتمن من ابنة أبي بكر الذي لم يلبث أن توفي سنة 478هـ / 1085م، بعد أن حكم بلنسية عشرة أعوام. وقد خلفه في حكم بلنسية ابنه أبو عمرو عثمان بن أبي بكر الذي لم يحكم بلنسية سوى بضعة أشهر من تلك السنة.
وفي سنة 478هـ/ 1085م سقطت طليطلة في يد ملك قشتالة النصراني ألفونسو السادس الذي وعد القادر بن ذي النون حاكم طليطلة -بعد إخراجه منها- أن يعينه في الاستيلاء على بلنسية. وتنفيذًا لهذا الوعد، أمد ألفونسو السادس القادر يحيى بن ذي النون بفرقة قوية من الجنود القشتاليين.
وسار القادر وجماعته صوب بلنسية، برفقة سرية قوية من الجنود القشتاليين، أمدَّه بها ألفونسو السادس بقيادة البارهانش أو البرهانس (Alvar Háñez )، ابن أخي رذريق الكمبيادور أو القمبيطور. وكان ألفونسو يعرف أن تمكين القادر من الاستيلاء على بلنسية سيجعلها وتوابعها تحت حمايته. وقد صلت هذه القوة بلنسية لإخضاعها، وجرت مراسلات مع أهلها، ووعودٌ من القادر لهم، انتهت بالموافقة على مطالب القادر، واستبعاد مطالب أحمد المستعين ابن هود، منافس القادر، وخُلِع أبو عمرو عثمان.
ودخل القادر وجنود قشتالة المدينة في شوال سنة 478هـ/ فبراير سنة 1085م. وكان عهد القادر في بلنسية عهدًا سيئًا؛ إذ عانت المدينة كثيرًا من الأهوال والاضطرابات، وكانت السيادة الحقيقية للبرهانس وجنوده القشتاليين الذين أرهقوا الأهالي بكثرة ما فرضوه عليهم من ضرائب ومطالب. وقد غادرها كثير من أعيانها نتيجةً لهذه السياسة الطائشة، التي اتبعها القادر إرضاءًا لأنانيته، ورغبةً في البقاء بمركزه، ولو كان في ذلك ضياع الدين، وانفاض البلد، وإرهاق الناس، وتحت حماية عدو متربص، وخصم غادر، وبسبب هذه الأوضاع، كره المسلمون حاكمهم الذليل الطريد "يحيى القادر" بشدة.
ثورة أهل بلنسية على القادر ومقتله:
كانت الأندلس في هذا التاريخ تُقبل على أحداث جديدة، تلك هي استدعاء المرابطين. ثم كانت وقعة معركة الزلاقة في رجب سنة 479هـ / أكتوبر 1086 م، حيث كتب الله تعالى النصر الباهر للجيش الإسلامي، وبذلك أُنجدت بلنسية، واطمأن أهلها، وتحطمت قوى ملك قشتالة.
في هذه الأثناء أعلن البلنسيون الثورة على القادر، فما كان من الذليل الخائن إلا أن استنجد بعدو الإسلام الأول في الأندلس "ألفونسو السادس" والذي سبق وأخذ منه ملكه وبلاده، استنجد به ضد ثورة أهل بلنسية عليه، ونظرًا لاضطراب الأحوال داخل بلنسية، أصبحت المملكة محط أنظار الطامعين من ملوك الطوائف الآخرين، وانهدمت الدنيا من حول يحيى القادر من كل مكان.
قام أهل بلنسية بالاتصال بالمرابطين وطلبوا منهم نصرة الإسلام، فهب المرابطون لذلك وأرسلوا جيشًا كبيرًا لنجدة أهلها، ولما اقتربت الجيوش المرابطية من بلنسية، ثار أهلها ثورة عارمة بقيادة قاضي المدينة "أبي أحمد بن عبد الله بن جحاف المعافري" واقتحموا القصر بحثًا عن يحيى القادر حتى وجدوه مختبئًا في حمام القصر ومعه صندوقان من الجواهر والكنوز، فقتلوه في الحال وحملوا رأسه على رمح وطيف بها في شوارع بلنسية، وذلك في 23 رمضان سنة 485هـ / 28 أكتوبر 1092م، وولوا مكانه القاضي أبا أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف.
نكبة بلنسية على يد الكمبيادور:
لكن بلنسية ما زالت مُقبلة على أيام أخرى شديدة، يرتبط هذا بتاريخ فارس قشتالي مُغامر يبحث عن طالعه، ويسعى لمغنمه. تُشير إليه مصادرنا التاريخية باسم (الكمبيادور أو القنبيطور أو الكنبيطور أو الكبيطور El Cid Campiador)، واسمه رودريجو (رذريق) دياث دي فيفار (Rodrigo Diaz de Vivar)، من مواليد قرية فيفار، قرب مدينة بُرْغش (Burgos) عاصمة قشتالة، وكان من جنود شانجه، أخي الفنش (ألفونسو السادس) ملك قشتالة وليون.
فعندما وصلت أنباء مقتل القادر إلى الكمبيادور سار في الحال في قواته صوب بلنسية، (485هـ / أواخر سنة 1092 م). وفي الحال ضرب الحصار حول المدينة، بعد أن أحرق ما حولها من الضياع والمروج، إلى أن سقطت بلنسية بيدة في سنة 487هـ /1094م، فجعلها مقر حكمه، ونكبت بلنسية نكبتها الكمبيطورية، حيث تم إحرقها، ثم أمر الكبيادور بالقبض على ابن جحاف وأفراد أسرته، وعذبه عذاباً شديداً، ثم أمر بإعدامه حرقاً، فأقيمت له وقدة كبيرة في ساحة المدينة وأحرق فيها بصورة مروعة، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة، كذلك أمر بإحراق جماعة من أعلام بلنسية، ومنهم أبو جعفر البتي الشاعر المشهور.
وغادر بلنسية كثير من أهلها المسلمين، واحتل النصارى دورهم وأحياءهم، وغدا السيد الكمبيادور وهو يزاول سلطانه بالقصر، كأنه ملك متوج، وسيد مملكة عظيمة، وغدا باستيلائه على بلنسية سيد شرقي الأندلس كله.
وفي محنة بلنسية يومئذ يقول الشاعر المعاصر أبو إسحاق بن خفاجة:
عاثت بساحتك العـــــــدا يا دار *** ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظــــــــر *** طال اعتبار فيك واستعبـــار
أرض تقاذفت الخــــوب بأهلها *** وتمحصت بخرابها الأقــدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها *** لا أنت أنت ولا الديار ديــار
وروعت الأندلس لسقوط بلنسية في أيدي النصارى، كما روعت من قبل بسقوط طليطلة، وتوالى على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صريخ الأندلس، ورسائل أعيانها، تصف ما أصاب بلنسية وشرقي الأندلس من الدمار، وتقطيع الأوصال، والذل على يد النصارى.
نجدة المرابطين لمدينة بلنسية:
ولم يكن استرداد المرابطين لبلنسية عملية سهلة، كما أن هذه العملية ألحقت بالمدينة كثيرًا من الدمار؛ فقد وصلت الجيوش المرابطية استجابة لاستغاثة أهل بلنسية سنة 488هـ/ 1095م، وحاصرتها، وحاولت دخولها أكثر من مرة. لكن السيد الكمبيادور كان يشن غارات مفاجئة على تلك الجيوش ثم يعود إلى داخل المدينة ويتحصن فيها. ثم تعاون مع قوات نصرانية أخرى من أرغون وقشتالة، وتمكن من هزيمة المسلمين سنة 490ه/ 1097م. وعندما وصلت أنباء ذلك إلى يوسف بن تاشفين، أنفذ جيشًا بقيادة محمد بن الحاج سنة 490هـ/ 1097م، وقد سار هذا الجيش نحو طليطلة حيث هزم قوات ألفونسو السادس، وقتل ابن السيد القمبيطور الوحيد دون ديجو، وفي الوقت نفسه سير جيشًا آخر بقيادة محمد بن عائشة نحو جزيرة شقر حيث التقى ببعض جنود القمبيطور وقتلهم شر قتلة، مما أصابه بالهم والغم اللذيْن توفي على أثرهما سنة 493هـ/ 1099م، فتولت مكانه زوجه خمينا الدفاع عن المدينة، واستطاعت أن تصمد أمام هجمات المرابطين، زهاء عامين آخرين.
بلنسية في عهد المرابطين:
وقد توجهت قوات مرابطية لحصار بلنسية بقيادة الأمير أبي محمد مزدلي، ابن عم يوسف بن تاشفين، الذي عسكر جنوب بلنسية. وكانت خيمينا في تلك الأثناء قد استنجدت بملك قشتالة ألفونسو السادس، فهب لنجدتها. ولكنه أدرك أنه لا قبل له بمواجهة الجيش الإسلامي، فآثر الانسحاب من بلنسية، بيد أنه أمر قبل خروجه بإحراق المدينة، ولم يغادرها إلا بعد أن غدا معظمها أطلالا دارسة. وفي اليوم التالي، الخامس من شهر مايو سنة 1102م / الموافق شعبان سنة 495هـ، دخل المرابطون بلنسية وعاد الثغر العظيم بذلك إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وعاد السلم يخيم على تلك الربوع، وانهار باختفاء السيد، أكبر عامل في بث الروع والاضطراب إلى شرقي الأندلس، ووقفت مغامرات النصارى في تلك الأنحاء مدى حين.
وبعد أن استعاد المسلمون بلنسية وليها الأمير مزدلي، واتخذها قاعدة لعمليات الجهاد والفتوح في شرقي الأندلس، وذلك بعد أن حول المرابطون خرائبها وأنقاضها إلى مدينة جديدة حافلة بالخير والعطاء. وظلت أحوال بلنسية مستقرة حتى ضعف المرابطون، ولم يعد لهم في الأندلس حول ولا طول، وعندئذ ثار فيها القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن خصّاب سنة 537هـ/ 1142م، وملكها. لكن أهلها خلعوه بعد ثلاثة أشهر. وبايع أهلها بعده الأمير أبا محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذامي الذي أقام مجاهدًا حتى استشهد على يد النصارى سنة 540هـ/ 1145م. وقد بايع أهلها بعده عبد الله بن عياض، وكان ثائرًا بمرسية، إلا أنه توفي سنة 542هـ/ 1147م، فتولاها محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش، وظلت في يده حيث بايع الموحدين سنة 566هـ/ 1170م.
بلنسية في عهد الموحدين:
وفي سنة 566هـ/ 1170م، عبر الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن إلى الأندلس مجاهدًا، وفتح كثيرًا من حصون طليطلة ثم عاد إلى مراكش سنة 571هـ/ 1176م. ورجع إلى الأندلس على رأس جيش قوي سنة 580هـ/ 1184م، وقد أصيب بجراح خطيرة على يد النصارى بينما كان يحاصر لشبونة، وتوفي على أثر ذلك في السنة نفسها (580هـ/ 1184م). وفي عهد خليفته المنصور الموحدي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، استأنف الموحدون الجهاد ضد النصارى، وتمكنوا من استعادة بعض المدن من أيديهم مثل شلب سنة 586هـ/ 1190م. ثم حققوا انتصارًا ساحقًا على النصارى في معركة الأرك في التاسع من شعبان سنة 591هـ/ 1195م فانكسرت شوكة النصارى إلى حين.
ولما استجمع النصارى قواهم، استأنفوا اعتداءاتهم على الأراضي الإسلامية في الأندلس، وتمكنوا بقيادة ملك قشتالة ألفونسو الثامن من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في معركة العقاب سنة 609هـ/ 1212م. وبعد تلك المعركة التاث أمر الموحدين، وخارت قواهم إن في المغرب أو في الأندلس التي عادت إلى سابق عهدها من التشتت والفرقة، وانتزى السادة بنواحي الأندلس كل واحد منهم في عمله.
وقد استغل زيّان بن أبي الحملات، من أعقاب دولة بني مردنيش، ضعف الموحدين، وثار في بلنسية، وملك زيان بلنسية، واتصلت الفتنة بينه وبين ابن هود، وزحف زيّان للقائه على شريش، فانهزم، وتبعه ابن هود ونازله في بلنسية أيامًا، وامتنعت عليه فأقلع.
سقوط بلنسية الإسلامية بيد النصارى الصليبيين:
وكان البابا غريغوري التاسع أصدر مرسومًا بإسباغ الصفة الصليبية على حروب إسقاط بلنسية. وبدأت هذه الحروب سنة 631هـ/ 1233م، ووقعت خلالها بين المسلمين والنصارى معارك كثيرة، ووقعت إحداها قرب أنيشة (أنيجة) سنة 634هـ/ 1236م، حيث احتل ملك أرغون خايمي الثاني هذا الحصن الواقع على بعد سبعة أميال شمال بلنسية. وقد حاول زيان استرجاع هذا الحصن، فوجه إليه قوة عسكرية بقيادة كبير علماء الأندلس ومحدثيها أبي الربيع سليمان بن سالم الكلاعي الذي لم يزل متقدمًا المسلمين، مقبلًا على العدو، حتى استشهد.
وبعد أن شدد خايمي الثاني الحصار على بلنسية، وبلغ أهلها ما ذكرنا من ضنك، اضطرت إلى التسليم يوم الثلاثاء، السابع عشر من صفر سنة 636هـ/ سبتمبر سنة 1238م. وبعد أن دخل الطاغية الأرغوني خايمي الثاني بلنسية، غادرها عشرات الآلاف من أهلها المسلمين، وتم تحويل مساجدها إلى كنائس، ونال من بقي فيها من المسلمين كل أنواع الاضطهاد والأذى الذي تعدى الأحياء إلى الأموات؛ إذ نُبشت قبورهم وخُربت معالمها.
المعالم الإسلامية في بلنسية:
مع أن بلنسية بلغت أوج ازدهارها العمراني في عصر الأندلس ثم في زمن الموريسكيين (العرب المتنصرين) فمن النادر اليوم أن تشاهد في المدينة مسحة أندلسية موريسكية واضحة المعالم، وقد تعمد الإسبان طمس كل ما يشير إلى العهد العربي الإسلامي، كما أزيلت أسوار المدينة جميعها ولم يتبق منها سوى بوابتين.
في بلنسية معالم إسلامية كثيرة خلّدت لجذورها الممتدة، ففيها بقايا أطلال حصن المنارة، وفيها أيضًا شوارع مازالت حتى هذه اللحظة تحمل اسمها العربي، فثمة حي في بلنسية اسمه "الرصافة Calle de Ruzafa". وفي بلنسية كذلك بقايا حمامات عربية في شارع يدعى "حمامات الأميرال"، ومن معالم المدينة الأخرى محكمة المياه التي أنشأها عبد الرحمن الناصر، والألمودين (الأهراء العامة) وهو مبنى من العمارة الإسلامية.
كما أنه لا يمكن زيارة مدينة بلنسية أو فالنسيا في إسبانيا دون الوقوف على أحد أبرز رموزها التاريخية، وهو كاتدرائيتها الكبرى، التي يملؤها اليوم صدى الترانيم الذي يتردد بين أرجائها وقد تسمّت باسم "كتدرائية العذراء"، والتي كانت في عهد المسلمين بالأندلس هي "الجامع الكبير" الذي لم يُخمد فيه آذان طوال قرون متعاقبة، حيث أعادها الكمبيادور كنيسة سنة 487هـ / 1094م، ثم أعادها المرابطون مسجدًا، حتى سقطت بلنسية في يد ملك أراغون، فشرع في بناء الكاتدرائية وأقيم إلى جوارها برج النواقيس.
تعد بلنسية اليوم مركزًا من أهم مراكز الثقافة الإسبانية، ويرجع تاريخ جامعتها إلى خمسة قرون مضت، وملحق بها مكتبة عامة كبيرة وداران للمحفوظات والوثائق التاريخية تضمان كثيرًا من المخطوطات والوثائق التي لها علاقة بالعرب المسلمين والموريسكيين.
المراجع:
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، ج2، الطبعة:
الرابعة، 1417هـ / 1997م.
- عبد الرحمن على الحجي: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، دار القلم ـ دمشق، الطبعة السابعة 2010م.
- محمد عبده حتاملة: بلنسية .. الحنين الى بستان الأندلس وحناء الديار الآبية، جريدة الرأي، 6 مايو 2016م.
- محمد وليد الجلاء: بلنسية، الموسوعة العربية العالمية.
- منى حوا: بلنسية الأندلسية، موقع أندلسي.
منقول