مما امتاز به القرآن الكريم تقريره لقواعد عامة، وإخباره عن سنن كونية واجتماعية، وطبائع بشرية، ومن الأمور التي جُبِل عليها الناس ما جاء في قوله سبحانه: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} (آل عمران:14) ولنا مع هذه الآيات عدة وقفات:
الوقفة الأولى: ذكر المفسرون في (المزين) في الآية قولين: أحدهما: أن المزين هو الله. ثانيهما: أن المزين هو الشيطان، قال القرطبي: "فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم".
الوقفة الثانية: هذه الآية جاءت عقيب حديث القرآن الكريم عن تأييد الله سبحانه لعباده المؤمنين يوم بدر، إذ نصرهم سبحانه على عدوهم، وبين سبحانه أن فيما ذكره عبرة لأولي العقول والأفهام، ثم أردف ذلك بما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة؛ وذلك أنه تعالى بين أنه زُين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، وبين أن هذه الشهوات والملذات فانية منقضية، تذهب لذاتها ومسراتها، وتبقى تبعاتها وآلامها، ثم قرر أن ما عنده خير وأبقى من متاع الدنيا وشهواتها وزخرفها ومغرياتها.
الوقفة الثالثة: ذكر سبحانه في هذه الآية من المشتهيات أموراً سبعة: أولها: النساء، وإنما قدمهن على سائر الشهوات؛ لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، قال القرطبي: "بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن؛ لأنهن حبائل الشيطان، وفتنة الرجال". وقال ابن كثير: "بدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام، قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) متفق عليه، فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حُبب إلي من الدنيا: النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)، رواه النسائي، قال الشيخ الألباني: حسن صحيح. وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير: (تزوج، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء)".
وقد ألمح الحرالي إلى ملحظ مهم في الآية، وهو أنه سبحانه أخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم، حيث قال: {وعصى آدم ربه} (طه:121) فأخفاهن لما في ستر الحُرُم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حي كريم.
الوقفة الرابعة: أتبع سبحانه ما يميل إليه الناس من الشهوات بعد النساء بحب البنين؛ إذ هم فلذة الأكباد، وبهم يدوم بقاء النوع الإنساني، ومن خلالهم يبقى ذكر للإنسان في هذه الحياة، قال الرازي: "اعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة؛ فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية؛ ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه بقاء النسل". وقال ابن كثير: "وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبو داود والنسائي، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} (القناطير) جمع قنطار، و(القنطار) مال كثير، يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يُحد، وهذا هو الصحيح. والمراد هنا أن النفوس جُبلت على حب جمع الذهب والفضة؛ إذ بهما قِوام الحياة، قال العلماء: "إنما كانا محبوبين؛ لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء". وقال ابن كثير: "وحب المال تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات، وصلة الأرحام، والقرابات، ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح محمود عليه شرعاً".
الوقفة السادسة: قوله عز وجل: {والخيل المسومة والأنعام والحرث} الخيل {المسومة} هي الراعية، يقال: أسمت الدابة وسومتها: إذا أرسلتها فِي مروجها للرعي، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً، ومنه قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} (النحل:10). {والأنعام} جمع نَعَم، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للجنس الواحد منها: نَعَم إلا للإبل خاصة؛ فإنها غلبت عليها. {والحرث} هي الأراضي المعدة للزراعة. وهذه الأمور الثلاثة من المحببات لبني آدم؛ لما فيها من المتاع والمصالح والمنافع، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية: من الخيل إلا النساء. رواه النسائي في السنن الكبرى وأحمد.
الوقفة السابعة: قوله تعالى: {ذلك متاع الحياة الدنيا} أي إن كل تلك الشهوات إن أُخذت فوق الحد المشروع منها، فإنها متاع زائل، وسراب خادع، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به، ولا تغتر به، والعاقل من تمسك بما هو باق غير فان، وما دائم غير زائل.
الوقفة الثامنة: قوله تبارك وتعالى: {والله عنده حسن المآب} {المآب} في اللغة المرجع، يقال: آب الرجل إياباً، وأوبة، وأبية، ومآباً: إذا رجع من سفر، أو رجع إلى الله بعد معصية، قال الله تعالى: {إن إلينا إيابهم} (الغاشية:25)، والمقصود من هذا الختام بيان أن من آتاه الله الدنيا، كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده، ويتوصل بها إلى سعادة آخرته، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب، وصف {المآب} بـ (الحُسن).
قال ابن عاشور: "وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالح الأعمال على المشتهيات المخلوطة أنواعها بحلال منها وحرام، والمعرَّضة للزوال؛ فإن الكمال بتزكية النفس لتبلغ الدرجات القدسية، وتناول النعيم الأبدي العظيم، كما أشار إليه قوله تعالى: {ذلك متاع الحياة والله عنده حسن المآب}.
الوقفة التاسعة: قال أبو هاشم الزاهد: "وَسَمَ الله الدنيا بالوحشة؛ ليكون أُنس المريد بربه دونها، وليُقبل المطيعون بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون، وإلى الله راغبون. وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتمل على ذمها، وتحذير الخلق منها، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها، ورغَّب في الآخرة، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع، وكيف لا، وهي عدوة الله؛ لقطعها طريق الوصلة إليه، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه؛ لأنها تزينت بزينتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وعدوة لأعدائه؛ لأنها استدرجتهم بمكرها، واقتنصتهم بشبكتها، فوثقوا بها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها".
الوقفة العاشرة: ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من الأقوال جديرة بالنظر والتأمل والاعتبار: فقال الثعالبي: "هذه الآية ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ، والشهوات ذميمة، واتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) متفق عليه، فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها خلص إلى النار".
وقال العلماء: "ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادِي، وأما الحرث فيتمول بها أهل القرى والريف. فتكون فتنة كل صنف فِي النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع".
وقال الرازي: "للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه: منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم، فيكون مذموماً؛ ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه، فيكون أيضاً مذموماً؛ ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة، وذلك لا ممدوح ولا مذموم؛ ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة، وذلك هو الممدوح".
وقال السعدي: "في هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها، وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما".
وقال السعدي أيضاً: "يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها...فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خُلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زاداً لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب. والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاء وامتحاناً لعباده، ليعلم من يُقدِّم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم، وطريقاً يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم، وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها: {ذلك متاع الحياة الدنيا} فجعلوها معبراً إلى الدار الآخرة، ومتجراً يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى ربهم".
وقال الشيخ الشعراوي ما حاصله: يأتي ذكر هذه الآية بعد ذكر المعركة الإسلامية، التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج المؤمن عما أَلِف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من شهواتها ومتعه في سبيل مرضاة الله سبحانه، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من الإقبال على ما يرضي الله سبحانه.
وقال أيضاً: وكلمة {زين} تعطينا فاصلاً بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر، فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية، وحين ننظر إلى الآية، فإننا نجدها توضح لنا، أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة، فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك، فهذا هو الممقوت. ونلحظ أن هذه الآية -التي تعدد أنواع الزينة- جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد فِي سبيل الله؛ وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى برسالته الحقيقية، وهي إدراك الشهادة في سبيل الله بسبب الشهوات الزائلة. وعندما نتأمل الآية فِي مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله فِي منهجه، إنه سبحانه يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته وفق مراد الله...والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله، يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم.
وربما يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟ وفي الجواب يقال: لقد كان الله قادراً أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديداً، لكن الحق يريد أن يعلِّمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون سبحانه هو الذي يزين، والفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملاً يعمله الإنسان فيها وفق ضوابط محددة، فإن التزم بها سعد ورشد، وإن زاغ عنها شقي وغوى.
والمهم هنا أن هذه الآية لا ينبغي أن تصرف المؤمن عن الدنيا بالكلية، وتحمله على أن يعيش حياة الترهب والتزهد والرهبانية، بل الصواب والعدل أن يقتفي في هذا منهج السلف الصالح والتابعين وأهل العدل والدين؛ فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، وما كانوا يترهبون، ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى.