فلسطين: اللاسلم واللاحرب
إن ما أدعو إليه ليس هو القتل والإنتقام ولا الحرب والتشرد ولا التصفية العرقية والإبادة الجماعية، تحت أي مسمّى سواء كان العلمانية والديمقراطية أو الصهيونية والتوسع الإسرائيلي أو حتى الإسلام والداعشية. أنا أدعو للسلام والسلمية والتصالح ولأن يخلع جنرالات الحرب قبعاتهم، لكي يجلس السياسي ويتفكر بعيدًا عن جنون الموت وهوس الخلافة الإلهية المتأصل في الديانات الرئيسية. أما أن تستثنى إسرائيل ودوّل دينية أخرى من حكم العلمانية، فيما يفرض هذا الحكم على المسلمين، فهذا أمرٌ مرفوض جملةً وتفصيلاً. وهذه ليست فقط عنصرية، بل فوقية دينية لا نقبل بها إطلاقًا. فلكي نتكلم عن السلام، على الجميع أن ينزل رشاشه من على كتفه، قبل أن يتحدث حديث السلام. وعلى الجميع أن يضع مبرراته الدينية في أماكن عبادته، بحيث لا تخرج منها أبدًا. للجميع حرية الخيار الديني، لكن ليس لأحد أن يفرضه على الآخر.
السلام، الذي أتحدث عنه، قد لا يحصل أبدًا، وقد لا يكون من الممكن أن يحصل أبدًا، ليس لأن المسلم والعربي يرفضانه. لكن لكونه سلامًا غير عادل وغير شامل، يقتضي بتنازلات كبيرة على جانب العربي والمسلم. بتنازلٍ عن الأرض والهوية والدين، في مقابل لا شئ أو إبادة العربي والمسلم، وليس فقط مجرد إقصائه. وها هي العلمانية تريد أن تخدم أطرافًا دون أخرى، عوضًا عن أن تكون عادلة وشاملة وغير دينية. فكيف تحالف الدول العلمانية اسرائيل، فهذا أمر مستغرب، إلا إذا لم تكن في الحقيقة علمانية كما تقول، وتحاول أن تستر نفسها بستار الإلحاد وهي في الحقيقة صهيونية وصليبية أيضًا، حسب رأي البعض.
قد يتعامل بعض العلمانيين مع النص الديني على أنه نص قابل للنقض والتمحيص ويمكن إثارة الشك فيه. وقد يكون هذا حق للبشر قبل أن يكونوا علمانيين، لأن التدين أو عدمه يأتيان بالإقتناع. وأنا بدوري أتعامل مع العلمانية على أنها وضعية، من صنع البشر، ومن حقي أن أتساءل وأثير الشبهات حول هذا المعتقد، الذي آخذ ما يعجبني منه وأترك ما لا يعجبني، ثم أني أستطيع التفكير وطرح الأسئلة التي تخطر في بالي. وبالفعل، فإن إسرائيل ولا علمانيتها تؤرق مضجعي؟ هل بعد القضاء على الإسلام، سننتحل اليهودية قسرًا؟ هل سنواجه الدين الإسلامي في المستقبل لصالح أديانٍ أخرى؟ علينا أن نعرف الإجابة الآن، لأن مفهوم العلمانية الذي نريد يبدو أنه يختلف عن مفهومها الحقيقي الجوهري، المتعلق بفصل الدين عن الدولة. وبالنسبة لنا، قد تكون العلمانية كلمة حق أريد بها باطل. ما أقصده هو أن نيتنا قد تكون صادقة، عندما يطالب بَعضُنَا بحكم العلمانية. لكن هذا المطلب لا يجب أن يقبل ببيع فلسطين بثمنٍ زهيد، مقابل حكم ديني يهودي يلغي وجودنا ويفرض علينا عقيدته. فبذلك، لا يتحقق حكم العلمانية، إنما تتسلط ديانةٍ على أخرى. وهدف العلمانية الأساسي هو منع هذا. فالعلمانية والديانة لا تقفان ضد بعضهما، وإنما هما مستقلاتان ومنفصلتان عن بعضهما البعض. الأولى تعني بالأمور الدنيوية والزمنية والأخرى بالروحانية والغيبية. وبالتأكيد، فالعلمانية يجب أن تدعو إلى لادينية الدول وتحفظ جميع حقوق الأقليات العرقية والدينية بشكل عادلٍ، متساوٍ وعملي.
إن من يحاول أن يشوه صورتي ويقرنها بالإرهاب، يكون هو الإرهابي الذي يكرهني ويرغب بمسحي من الصورة، كي يخلو له الجو، فيمتد ويستعمر. ليس من المبالغة القول بأن الإرهاب هو رد فعل وليس فعل قائم بذاته. لكن لا أحد يجرؤ على قول هذا علنًا. فلربما لو لم تكن إسرائيل يهودية، لما كانت المقاومة إسلامية. وعلينا أن نتذكر أن كل فعل له رد فعل، معاكس له في الإتجاه ومساوٍ له في القوة. وأنا لا أدعي هنا أن حماس أقوى من إسرائيل. لكن بلا شك أن الفكر الديني لا بد أن يجابهه فكرًا دينيًّا لأن اسرائيل تمس الفلسطينيين بالمعتقدات، بالإضافة للأرض والهوية والوجود. ولهذا يسمى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأنه صراع وجودي. وإسرائيل هي التي جاءت عندنا. الفلسطينيون لم يذهبوا عند أحد، ولو أتوا إلينا لاجئين، لرحبنا بهم ولفتحنا لهم بيوتنا، لأننا لم نكره يومًا اليهود، بل هم من يريدون إبادتنا، كي يأخذوا مكاننا وليكون لديهم وجود في العالم على حساب اضمحلالنا. فإذا كانت إسرائيل تبرر وجودها بما جاء في التوراة، فهذه دعوة صريحة، لكي يفتح المسيحي إنجيله والمسلم قرآنه، لصد هذه الرؤية الدينية العدوانية الضيقة.
قد يكون الصراع في فلسطين دينيًّا في جانب من الجوانب، لكنه فرض علينا من قبل إسرائيل وحلفائها الغربيين، الذين وصف بعضهم في السر، الإنتداب البريطاني بأنه بمثابة عودة للصليبية. كما استاء كثيرون في بريطانيا حينها من وعد بلفور، لأنه تنازل عن الأراضي المقدسة لليهود، فيما رأوه حقًا للمملكة المتحدة. لذلك، الفلسطيني صاحب حق مسلوب، سلبه منه من هو أكثر قوة ونفوذًا وخبثًا. ولهذا، علينا أن نكون دقيقين في اختيار مصطلحاتنا. فالعلمانية هي الإنحياز للعقل والمنطق، للأدلة الملموسة وللحقيقة كما ينبغي أن تكون. العلمانية لا يجب أن تعني الإنحياز لدولة دينية عنصرية كإسرائيل. إن من يطالب بتطبيق العلمانية لا ينبغي أن يطالب بالإلحاد كذلك. كل ما هنالك أن علينا أن نتمسك بمسألة فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية ونتخلى عن المفاهيم الوهمية والواهية لمصطلح العلمانية.
منقول