الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالله سبحانه وتعالى كما قال: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. {الأنبياء:23}.هذا مع إيماننا بأن أفعاله تابعة لحكمته سبحانه وتعالى، فهو لا يخلق شيئا عبثا ولا باطلا، إلا أنه قد يخفى على الناس بعض أوجه هذه الحكمة؛ لأنهم لا يحيطون به علما. قال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شاء.{البقرة:255}. وقال: وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. {الإسراء:85}
وكم من أشياء في هذا الكون كان الناس في السابق لا يقدرون لها قيمة، ثم بعد تقدم العلوم التجريبية أدركوا قيمتها، والمطلع على دراسات الجيولوجيا والفيزياء والأحياء يدرك ذلك، انظر مثلا إلى بعض عناصر الأرض، كأشباه الموصلات -التي هي في مرتبة متوسطة بين المواد الموصلة للكهرباء والمواد العازلة لها-، هل كان الناس في القرون السابقة يعرفون قيمتها؟ بالطبع لا، ولكن بعد التقدم التكنولوجي في هذا الزمان أصبحت الثورة الالكترونية بأكملها قائمة على هذه المواد.
وكذلك في عالم الكاننات الحية، فالعلم يكشف عن أدوار لبعض الكائنات الحية لم تكن معروفة من قبل، فهي تشكل حلقة في إحدى منظومات الكون، فقد تكون مفيدة بغيرها لا بذاتها. وقد يدخل في حكمة خلقها أيضا الاعتبار.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: فإن قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات؟ قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي وذلك أعظم الاعتبار.
أما الآية التي أشرت إليها فلعلك تقصد قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم. وقوله: وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
قال في فتح القدير أخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا. قال : سخر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله ونعمة لابن آدم، وبلغة ومنفعة إلى أجل.
وقال البغوي: لكي تعتبروا وتستدلوا، وقيل لكي تنتفعوا.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أي خلق لكم برا بكم ورحمة، جميع ما على الأرض، للانتفاع والاستمتاع، والاعتبار. وفي هذه الآية الكريمة، دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث؛ فإن تحريمها أيضا يؤخذ من فحوى الآية، وبيان المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر، فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا. انتهـى.
والله أعلم.