في صحراء شمال إفريقيا الشاسعة التي تشبه في مجموعها البلاد الحجازية، طبيعة ونمطًا حياتيًّا واجتماعيًّا، كانت تعيش قبائل صنهاجة اللثام البربرية، ويقال إنهّم من حمير من عرب اليمن، تلك القبائل الأبية التي ذاع صيتها في التاريخ بعد أن اهتدت واتبعت دين الحق، ومن أشهرها قبيلة لمتونة في شمال الصحراء، وتليها مسوفة في جنوبها، ثم كدالة بالقرب من نهري السنغال والنيجر وساحل المحيط الأطلسي.
ويذكر المؤرخون أنّ تلك القبائل ظلت متفرقة الكلمة، قليلة الشأن، تعيش في معزلٍ عن العلم والحضارة، وفي حالة يرثى لها من الجهل والتأخر، وتلوثت عقائدها بالسيئ والفاسد من العادات والتقاليد التي تسربت إليها من جاراتها القبائل الإفريقية الوثنية، ولم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه، وقد استمرت على ذلك الحال حتى أوائل القرن الخامس الهجري / الحادي عشر ميلادي، عندما حدثت فيها تلك الانتفاضة الدينية التوحيدية الإصلاحية التي ألفت بين قلوب أبنائها، ووحدت صفوفهم على أسس دينية وأخلاقية صحيحة.
فكيف حدثت تلك النهضة الإصلاحية يا ترى؟ ومن هو الذي سعى من أجلها؟
تقول كتب التاريخ إنّ بداية هذه الحركة الإصلاحية ترجع إلى تلك الصرخة المدوية التي أطلقها الأمير يحيى بن إبراهيم الكدالي، زعيم قبائل الملثمين - أو صنهاجة اللثام كما يطلق عليها-، فقد عزّ على هذا الزعيم الأبي المجاهد، أن يرى نفسه، وقومه يعيشون في تلك الأوضاع المزرية من الجهل والتأخر؛ حيث لا زالت تتحكم فيهم عادات الجاهلية وتقاليدها، وأعرافها بما تتضمنه من رعونة وطيش وعصبية مقيتة، وتسود الوحشة واختلاف الكلمة فيما بينهم، وتهيمن على حياتهم القيم المناقضة للإسلام، مما جعلهم فريسة سهلة للطامعين، فرأى الأمير الكدالي أنّ مسئوليته تحتم عليه التحرك وبذل كل ما في وسعه لإنقاذ قومه مما هم فيه، فترك بلاده وأخذ يطوف بالمراكز العلمية والثقافية بالمغرب، لعله يجد فيها من يتولى هداية قومه وإصلاح شأنهم، وتنويرهم بأمور الإسلام، وكان ذلك في حدود عام 427هـ.
وفي مدينة القيروان التي كانت من أهم المراكز العلمية والثقافية في إفريقيا والمغرب في ذلك الوقت، اتصل يحيى بن إبراهيم الكدالي زعيم قبائل صنهاجة، بأحد أقطاب المالكية، وهو الفقيه الكبير أبو عمران الفاسي، (ت سنة 430هـ ) وبعد أن سأله هذا الأخير عن حاجته قال الأمير الكدالي: "..... ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون، لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال حرفتهم البيع والشراء، ولا علم عندهم، وفينا قوم يحرصون على تعلم القرآن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فعسى -يا سيدي- أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا".
ويقال إنه حينذاك ومضت في رأس ذلك الفقيه المالكي الفاسي فكرة تأسيس دولة على قواعد إسلامية صحيحة في المغرب، لإنقاذه من حالة التمزق والفوضى وتطهره من الفرق والحركات الهدامة التي انتشرت فيه، ويبدو أنّه شعر بحماسة الأمير الكدالي وما يمثله من ثقل في بلاده، فقام بإحالته على تلميذٍ له في بلاد السوس في أقصى المغرب، وهو الفقيه وجاج بن زولو اللمطي، الذي كان يقيم في رباط هناك بمدينة نفيس يسمى دار المرابطين، ولم يكن هذا الرباط سوى أحد المركز الحربية التي انتشرت على سواحل المنطقة الجنوبية، لجهاد برغواطة، التي كانت ترفع لواء دعوة إسلامية محرفة ومشوهة، لا تمت للإسلام بمفهومه النقي الصافي بصلة، وأيضًا للتصدي لروافض الشيعة الذين استفحل أمرهم في بلاد السوس، وكانوا في حالة عداء وحرب، مع جيرانهم المالكية.
وقد اهتم الفقيه وجاج اللمطي بوصية شيخه أبو عمران الفاسي، اهتمامًا كبيرًا، واختار فقيهًا من خيرة الفقهاء العاملين، والموثوق في دينهم وكفاءتهم من أصحابه المرابطين والمنقطعين للجهاد والعبادة معه، ألا وهو الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي الصنهاجي -الذي تتلمذ على شيوخ قرطبة والقيروان- وكان عالما قوي النفس ذا رأي وتدبير فأرسله صحبة الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، لهداية الصحراويين وتفقيههم في أمور دينهم، وتوحيد صفوفهم.
وهكذا ذهب الفقيه عبد الله بن ياسين إلى تلك القبائل الصحراوية، وحط رحاله في ديار قبيلة كدالة، التي تلي ديار قبيلة لمتونة جنوبًا وتجاور ساحل المحيط الأطلسي، حتى مصب نهر السنغال، وكانت فيها زعامة صنهاجة اللثام في ذلك الوقت، وهناك ابتنى عبد الله بن ياسين رباطًا له، وانعزل فيه صحبة الأمير يحيى بن إبراهيم، وجعله مقرًّا له لبث دعوته إلى الإصلاح، ودشن أول حلقة تدريسية بالبلاد، وشرع من خلالها في إحياء تعاليم الإسلام، وأصوله الصحيحة.
وكان الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي -إلى جانب سعة علمه وفقهه وعقيدته السلفية الصحيحة، وعفته البالغة- يتمتع بشخصية قوية ومؤثرة، وكان ذا صوت خطابي رائع، وذا قدرة كبيرة على الإقناع والتأثير فيمن حوله، مع شدته في الحق، فلم تكن تأخذه فيه لومة لائم، وكان شديد الحماس للقيام بهذا الدور الذي أنيط به، وأُلقي عاتقه، خدمة لدينه وأمته، وإعلاء لشأنهما.
وقد لقيت دعوته الإصلاحية معارضة من جانب، وقبولاً وتجاوبًا من جانب آخر، معارضة من بعض المنتسبين إلى العلم المبتغين به عرض الحياة الدنيا، ومن كبراء القبائل المحيطة بالرباط الذين استثقلوا تنفيذ الحدود على رعاياهم، وقبولاً من بقية الناس؛ حيث لم يمض وقت طويل حتى التف من حوله المئات من الكداليين واللموتونيين وغيرهم، وأخذوا ينهلون من علمه، ويقتدون به، على الرغم من التحديات والاستفزازات من الطرف المعارض.
ولقد استطاع هذا الفقيه بفضل ذكائه وإخلاصه وحزمه، وتوفيق الله له، أن يحدث تغييرًا جذريًّا ونوعيًّا بين قبائل الملثمين، فقد تحولوا على يديه من قبائل متفرقة متخلفة، إلى قوة دينية سلفية، تقوم على أساسين هما:
أولاً: الإيمان الراسخ بالله وإقامة شعائر الإسلام وفق ما جاءت به السنة.
ثانيًا: التمسك بمذهب مالك بن أنس فيما يرجعون إليه من قوانين دينية ودنيوية.
وهو الذي أطلق عليهم تلك التسمية الخالدة "المرابطين" أي المجاهدين الصابرين في سبيل الله، وذلك تمشيًّا مع الأهداف الإصلاحية السامية التي قامت من أجلها الحركة.
ومن رحم هذه الحركة ولدت دولة المرابطين المعروفة في التاريخ بسجلها الجهادي الرائع في المغرب والأندلس والسودان وامتدت من طليطلة شمالاً حتى غانا جنوبًا.
أما الزعيم الكدالي يحيى بن إبراهيم فتوفي سنة 440هـ، فرحمة الله عليه وجزاه الله خيرا على ما قدمه لدينه وأمته.
المصدر: موقع التاريخ.