بَعُدَ العهد بالإسلام بين المسلمين في غرب إفريقيا، ومن ثَمَّ انتشرت بينهم الخرافات والبدع والضلالات المتنوعة؛ ولأن الله حافظٌ دينه، فقد أرسل مَن يُجدِّد الدين في هذه البلاد، وذلك من خلال عدة حركات إسلامية قادها عدد من العلماء المجاهدين.
الحركة الإصلاحية الفولانية
1- جهاد عثمان بن فودي:
وُلِدَ الشيخ عثمان بن محمد فودي على الأرجح يوم الأحد في آخر يوم من صفر عام 1168هـ، الموافق 15 ديسمبر (كانون الثاني) من عام 1754م، واسم فودي الذي اشتهر به والده يعني بلغة الفولانيين الفقيه، وكانت ولادته في قرية تغل، في منطقة غوبر، من تلك البلاد التي تُعرَف ببلاد الهوسا.
نشأ الشيخ عثمان في حِجر وَالِدَيْن صالحين، كان لهما الفضل الكبير في توجيهه إلى العلم وَالدِّينِ الذي أُولع به منذ أن بلغ الحلم، ففتح الله عليه الفتوحات الغيبية، وأضاء قلبه بالإيمان، فأدرك ما يُعانيه شعبه من مآسٍ وفتن نتيجة سيادة الأفكار الخاطئة وآثار الجاهلية الخبيثة، فعَمِل بِوَعْي وتصميم على تغيير هذا الواقع، ففتح الله على يديه بلادًا واسعة وشعوبًا كثيرة، وأَسَّس حركته التي ما زالت آثارها باقية إلى وقتنا الحالي.
أما أهم أساتذته على الإطلاق فقد كان الشيخ جبريل، الذي قام بواجبه تجاه تلميذه مرتين؛ الأولى عندما قَدَّم للشيخ علومًا مفيدة أسهمت في تكوين شخصيته العلمية والسياسية، والثانية عندما كان أول مَن بايعه على الجهاد على سبيل نشر الإسلام في تلك المنطقة، واعترف له بالولاية، وعقد له الراية، وفي المقابل لم يكن الشيخ أقلَّ سموًّا من معلمه! فقد كان يُردِّد بشكل دائم هذا البيت من الشعر:
إِنْ قِيلَ فِيَّ بِحُسْنِ الظَّنِّ مَا قِيَلا *** فَمَوْجَةٌ أَنَا مِنْ أَمْوَاجِ جِبْرِيلا
وفي وسط ظروف تَسُودُها الأفكار والعادات والتقاليد الجاهلية بدأ الشيخ عثمان بن فودي عمله الشاقَّ والصعب في الدعوة إلى الله، حيث كان يحكم المجتمع مجموعة من الملوك والأمراء الذين يتطاحنون على حقِّ السيادة، ويتنازعون على الأرض، والأرزاق، واستعباد الناس، فقد شَهِدَت إفريقيا جنوب الصحراء عصرًا من عصور الملكية المطلقة، وتطاحنًا أودى بحياة الكثير من أبنائها، ومن سيادة الأفكار القبلية التي لا مجال معها للوَحْدة بين القبائل دون غالب ومغلوب، بحيث تستمرُّ حلقات التنافس القبلي دون توقُّف، مع ما يُرافق ذلك من سيادة للعقلية الحربية التي تضع شرائح كبيرة من المجتمع في دائرة الاستضعاف، إضافةً إلى أن الوضع القبلي هذا لم يستطع أن يُفرز حالة وَحْدَوِيَّة تستطيع أن تُوَحِّد منطقة بأكملها تحت راية واحدة، ولغة واحدة، وأهداف واحدة، وبالتالي تستطيع إنتاج حالة أكثر تقدُّمًا مما كانت عليه، وكان هؤلاء الملوك على ديانات وثنية متخلفة ما زالت بقاياها قائمة حتى أيامنا هذه، عبر ما يسمى بالديانات الأرواحية التقليدية.
وفي مثل هذه الظروف بدأ الشيخ ابن فودي عمله، حيث أخذ على عاتقه مهمَّة تحرير شعبه من سيادة الأفكار الجاهلية المتخلفة ومن سيطرة السلاطين الجبابرة، الأمر الذي أفضى إلى إقامة دولة إسلامية استمرَّت أكثر من مائة سنة في تلك البلاد البعيدة عن مركز الدولة الإسلامية، ومن دون أي تَدَخُّل خارجي[1].
لقد قَسَّم الشَّيخ عثمان بن فودي -رحمه الله- في كتابه (نور الألباب) سكَّان بلاد (الهوسا) إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأوَّل: مَن يعمل أعمال الإسلام، ولا يَظهر منه شيءٌ من أعمال الكفر، ولا يُسمَع منه شيءٌ مما يُناقض الإسلام، وأكَّد صحَّة عقيدة هذا النَّوْع من النَّاس.
القسم الثَّاني: مُخلِّط: يَعمل أعمالَ الإسلام، ويُظهر أعمالَ الكفر، يُسمَع مِن قوله ما يُناقض الإسلام، فحكم على هؤلاء بالكفر.
القسم الثَّالث: هم الذين لم يشمُّوا رائحة الإسلام، فهؤلاء كفَّار بالأصالة، ولا تجري عليهم أحكامُ الإسلام[2].
وقد بدأ الشيخ مهمَّته في شكل دعوي، وهو ما أسماه في أدبياته (الجهاد القولي)، وقد كانت مرحلة للدعوة والإرشاد، ورفع المستوى التعليمي العامِّ، ومستوى الوعي الاجتماعي العامِّ، حيث أرسل رسائل إلى كل فئات المجتمع يدعوها إلى الله، موضِّحًا أهمية الإسلام في إحياء الأُمَّة وخلاصها من مشاكلها الواقعية التي تعيشها.
وقد ركَّز عثمان بن فودي في أسلوبه من خلال هذه المرحلة على استخدام عنصرين مهمَّيْن: أولهما التركيز على موضوع المرأة في النموذج الإسلامي، والفرق بينه وبين المرأة في النموذج الجاهلي المتخلِّف، وقد أسهم الكثير من السيدات المسلمات في حركة النهوض التي قادها الشيخ عثمان، كما شكَّلت هذه القضية تحدِّيًا كبيرًا للأفكار السائدة من خلال دعوة المرأة إلى التحرير من الاستعباد الحقيقي الذي تعيشه في ظلِّ الوضع السائد.
كما اعتمد على استخدام الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية المعروفة في تلك البلاد والمحببة إلى القلوب، وقد كان الشيخ مبدعًا في تأليف كمية كبيرة من القصائد والموشحات ذات المضمون الأخلاقي والعلمي والإرشادي الراقي باللغات المحلية، وقد كانت هذه القصائد تنتشر مثل (النار في الهشيم)، تنتقل من ألسنة الدُّعاة إلى ألسنة العامة، وما زال الكثير منها محفوظًا حتى الآن، خاصَّة إذا علمنا أن الثقافة الإفريقية هي ثقافة حفظ، وليست ثقافة تسجيل.
وقد استمرَّت هذه المرحلة من عام 1774م حتى 1803م أي حوالي 30 سنة بالدعوة والبناء الدقيق لحركة الدعاة والمبلغين، والتحدي الأخلاقي والفكري والاجتماعي للمجتمع القائم، ولكن دون المواجهة المباشرة، بل عُرِف عنه في تلك المرحلة تشديده على الدعاة بعدم الدخول بأي صدام مع القوى المسيطرة.
وقد ألَّف في هذه المرحلة الكثير من المؤلَّفات الهادفة والدراسات القَيِّمة، وكان يتنقل بين المدن والقرى بنفسه يبثُّ أفكاره، وانتهت هذه المرحلة بتأسيس المجموعة الأساسية من الحواريين والأتباع، أو مَن سمَّاهم بالطلبة، بهدف نشر الصورة الجلية للإسلام، وبهدف تقديم النموذج الأرقى للدين القويم، وفضح علماء السوء الذين كانوا يَرَوْن الواقعَ المنكرَ فلا يعملون على تغييره بأي شكل من أشكال التغيير المتاحة.
وبالفعل جاء الردُّ قويًّا لممارسات الشيخ، حيث بدأ المواطنون يُعلنون رفضهم للأوامر التي تتنافى مع تعاليم الإسلام، خاصَّة في أوساط الشباب الذين يُعتبرون القوة الضاربة في أي قتال يدور بسبب السرقة والتعدي، ونهب المحاصيل أو الثروات الحيوانية، كذلك فالفتيات بَدَأْنَ يَرفضنَ ما يُؤمِنَّ به إذا كان منافيًا لأحكام الدين الحنيف؛ مما دفع مَلِكَ المنطقة للمطالبة بمغادرة الشيخ خوفًا منه على سحب الْبِساط من تحت قدميه، غير أن الشيخ كان قد اتخذ بالفعل قراره بالهجرة مع كل مجموعته، وأصدر فتوى بذلك أذيعت في مختلف الأمصار، وما إن انتقلت الأخبار إلى المدن المجاورة حتى تجمَّع المؤمنون من كافَّة أنحاء البلاد يَبْنُونَ أوَّل مجتمعاتهم القائمة على الحكم الإسلامي.
واستمرَّت هذه المرحلة إلى عام 1808م، وكانت ولا شكَّ مرحلة توطيد دعائم الحكم الإسلامي، حيث وضع نظامًا إداريًّا متقدمًا يُراعي النُّظُم الإسلامية، ووحَّد البلاد تحت راية واحدة، وجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، واستمرَّت هذه الدولة حوالي مائة سنة حتى دخول الاستعمار البريطاني إلى تلك المنطقة، حين قرر المَلِكُ أن يُجهِّز جيشًا لمقاتلة المجموعة المؤمنة، فالتقى الجيشان وانتهت المعركة بنصر جيش المسلمين، فكانت هذه المعركة جولة حاسمة انهار على أثرها الكثير من الجيوش والممالك الصغيرة، بعضها بالقتال، وبعضها بالتهديد، وفي هذه المرحلة التي تُعْرَف بمرحلة الجهاد المسلَّح، تمَّت الخطوة الحاسمة التي لم يكن بالإمكان أن يَستقِيم الوضع بدونها، ألا وهي مبايعة الشيخ قائدًا وإمامًا على سُنَّة الله ورسوله[3].
2- حركة جهاد أحمدو لوبو في منطقة ماسينا:
بينما كان الشيخ عثمان بن فودي يواصل جهاده ضدَّ حُكَّام إمارات الهوسا، بدأت حركة إسلامية فولانية أخرى في منطقة ماسينا على نهر النيجر العلوي، قادها الشيخ أحمدو لوبو، وهو أحد مؤيِّدي الشيخ عثمان السابقين في إمارة جوبير، وكان الفولانيون قد استقرُّوا في منطقة ماسينا الخصبة منذ عدَّة قرون، ومارسوا حرفة الرعي إلى جانب جماعات الماندجو الزراعيين، ولكنهم ظلُّوا بمعزِل عنهم، وكان لهم رؤساء من جماعات الديولو، الذين اقتصر حكمهم على الفولاني منهم التابعين لأسيادهم من جماعات البمبارا في سيجو، وكانت هذه الجماعات سواء الفولاني منهم أو الماندنجو يَدِينون بالوثنية باستثناء بعض الجماعات القليلة التي اعتنقت الدين الإسلامي؛ بسبب ظهور الحركات الإصلاحية في منطقة سوكوتو، أو في منطقة فوتا جالون.
ففي هذه المنطقة أعلن الشيخ أحمدو لوبو نفسه أميرًا للمؤمنين، وبدأ جهاده ضدَّ جماعات البمبارا أو الماندنجو.
وينحدر الشيخ أحمدو من إحدى العشائر الفولانية المسلمة التي هاجرت من منطقة ماسينا، وعاشت مع شعب البمبارا حيث كانت الوثنية منتشرة هناك، وتلقَّى أحمدو ثقافته الإسلامية من شيوخ أسرته، ثم الْتَحَق بمدينة جنى التي كانت من المراكز الإسلامية الكبرى في غرب إفريقيا، حيث تعلَّم التفسير والفقه وعلوم الدين الأخرى، ثم عاد إلى ماسينا ليُعلِن الجهاد؛ لكي ينقذ الوثنيين من عبادة الأحجار، ويهديهم لعبادة الله وحده.
نظر الشيخ أحمدو لوبو إلى حركة الجهاد في سوكوتو يَسْتَلْهِم منها الرشاد، ويتَّخذها أساسًا لبناء دولته الإسلامية، وأرسل الشيخ أحمدو بالفعل إلى دولة سوكوتو لتوطيد العَلاقات مع خليفة الدولة محمد بلو (1817- 1837م)، وبالرغم من مساعدة الخليفة له وإرساله الكتب التي طلبها ليَسترشد بها، إلا أن الشيخ أحمدو رفض التبعية لدولة سوكوتو بمجرد أن أعلن الجهاد، كما امتنع عن دفع الضرائب إلى الخليفة، واستمرَّ يَسْتَلْهِم من دولة الفولاني الْعَوْن الرُّوحي، ويعتمد مؤلفات الشيخ عثمان وعلماء سوكوتو في كثير من أعماله وتنظيماته.
بدأ الشيخ أحمدو لوبو تعاليمه في عام 1797م، وعندما شاهد رؤيا في منامه في عام 1816م أعلن الجهاد، وأخذ يسعى لنشر المبادئ التي نادى بها أولًا بين الشباب في المدن وخارجها، وانضمَّ إليه أفراد عشيرته، هذا إضافة إلى قلَّةٍ مِن المسلمين في المناطق الزراعية.
استقرَّ الشيخ في مكان يُدعى روندى سيرو بالقرب من مدينة جنى، ومِن هناك حَمَل لتلاميذه دعوته، واستمرَّ يَعِظ الناس، لمدَّة تقترب من عشرين عامًا، ثم جاهر بتحدِّيه للحاكم وأتباعه، حيث اتهمهم بممارسة العادات والتقاليد الوثنية التي تَبْعُد عن الدِّين الصحيح، كما اعتبرهم أداة في أيدي أسيادهم من حكام البمبارا، وهاجم بالفعل العلماء داخل المدينة نظرًا لتهاونهم في تطبيق الشريعة الإسلامية.
ظهر الشيخ لسلطات ماسينا عندما نصح أتباعه بقتل ابن الحاكم؛ لأنه اغتال أحد أتباع الشيخ أحمدو، وبعد هذا الحادث اضطر الشيخ أحمدو إلى الهروب خوفًا من انتقام الحاكم، وتوجَّه الشيخ مع قلَّةٍ مِن أتباعه إلى مدينة سوى، وفرض سيطرته على كل منطقة سيرو، ولقَّبَ نفسَه أمير المؤمنين، بل وادَّعى أنه آخر الأئمة الاثني عشرية.
ونَاصَرَ الفولاني سواء من الوثنيين أو المسلمين، واستطاع بعد فترة وجيزة أن يُصبح سيِّدًا لمنطقة تبلغ مساحتها 50.000 ميل مربع، وضمَّت داخل حدودها كلًّا من مدينتي جنى وتمبكت، كما استولى على مدينة كوناري بعد صراع مرير مع حاكمها، وفي هذه المدينة التي تقع على الشاطئ الأيمن لنهر باني أَسَّس في عام 1815م مدينة (حمد الله)؛ لتكون حاضرة لدولته وعاصمة لدولة ماسينا الإسلامية، وأحاطها بسور ضخم، وضمَّ إليها بعض الإقطاعيات الزراعية خُصِّصت لرجال الدين والعلماء، وغيرهم من المسلمين.
وقد قام الشيخ أحمدو بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في دولته، فأنشأ بيتًا للمال، وأقام نظامًا عسكريًّا للدفاع عن حدود الدولة، وعيَّن الأُمراء في مختلَف إمارات الدولة، وقسم العاصمة "حمد" إلى سبعة أحياء، يُشرِف على كل حيٍّ من أحيائها قاضٍ، وعيَّن قاضي القضاة على رأس هؤلاء الحكام، أما بالنسبة للجهاز السياسي للحُكم فقد اعتمد الشيخ أحمدو على مجلس الأربعين الذي يَرْأَسه أحد مشاهير العلماء، وبالرغم من أن الشيخ أحمدو قد حمل لقب أمير المؤمنين، إلا أنه كان عضوًا في المجلس، وكان يُفوِّض الكثير من سلطاته إلى زملائه أعضاء مجلس الأربعين[4].
3- حركة الجهاد الإسلامي في منطقة التكرور:
امتدَّت حركات الجهاد إلى مناطق أخرى من غرب القارة، حيث استطاع الحاج عمر الفولاني نقل جهاده إلى بلاد السنغال، تلك المنطقة التي كانت قد دخلت في الدين الإسلامي، وعَرَف سكانها مبادئ الدين منذ أيام عبد الله بن ياسين، وأَخلَص أهل السنغال لدعوته، وشاركوا في جهاده، وتشرَّبوا الحضارة العربية الإسلامية، وأَخلَصوا في أداء الشعائر الدينية؛ لذا لم يكن غريبًا أن يَظهر في هذه المنطقة وفي تلك التربة الصالحة رجل مجاهد آخر يدعو الناس إلى الالتزام بمبادئ الإسلام، ذلك الرجل هو الحاج عمر بن سعيد، الذي وُلِدَ في قرية حلوار بالقرب من بودور على الحدود السنغالية الموريتانية إلى الشرق من مدينة سان لويس وذلك في عام 1797م، وكان الحاج عمر هو الابن الرابع للشيخ سعيد، وينتمي إلى إحدى الأُسَرِ التي قاومت الوثنية في هذه المنطقة، كما قاومت الاستعمار الأوربي.
وفي عام 1838م انتقل الحاج عمر إلى منطقة ماسينا، وظلَّ هناك بعض الوقت في ظلِّ حاكمها الشيخ أحمدو لوبو، ولكنه عندما ذهب إلى منطقة سيجو طردته السلطات هناك، فرحل إلى منطقة كانجاب، ثم انتقل إلى منطقة (كان)، حيث استمرَّ سبع سنوات يعظ الناس، ويُعلِّمهم مبادئ الدين الإسلامي.
استقرَّ الحاج عمر في النهاية في دنجوري عند التقاء نهر فوتا جالون مع نهر بامكو وبوندو، وقضى الحاج عمر الفترة منذ عام 1845 حتى 1850م في تدعيم دولته، فبنى حصنًا في دنجوري، ومن هناك بدأ يُعلِن الجهاد ضدَّ الوثنية، وبدأ يغزو إمارة البمبارا في كارتا، واستطاع أن يُلحِق الهزيمة بجيشها في عام 1854، واستولى على أهمِّ المدن بها، وكان يأمُل أن تساعده السلطات الفولانية في ماسينا في شنِّ هجوم مشترَك على المدن بها، ولمَّا رفض حُكَّام ماسينا دعوته اتجه نحو الغرب لمهاجمة بعض الإمارات السنغالية في حوض السنغال الأوسط، وهناك الْتَقَى بالقوَّات الفرنسية في عام 1857م والْتَحَم بها، واضطر إلى الرجوع للشرق.
وأدرك أن التوغُّل الفرنسي هناك سيجعل من المستحيل بناء دولته على نهر السنغال، فكان انسحابه إلى الشرق نواة لتكوين إمبراطورية من مملكة البمبارا وماسينا.
وأثناء اشتباكات الحاج عمر مع الفولاني في ماسينا، قُتِل الحاج عمر في عام 1864م، وهو في قِمَّة قُوَّته، لكن قبل أن يَدْعَم إمبراطوريته، وترك لابنه أحمدو الشيخ مسئوليات جسامًا، وصراعات أُسَرِيَّة، وحركات تمرُّد مستمرَّة، إضافة إلى توغُّل فرنسا في منطقة ماسينا، وهكذا صار أحمدو الشيخ خليفة لهذه الإمبراطورية بعد وفاة والده.
ومنذ البداية صار موقف أحمدو الشيخ صعبًا؛ ذلك أنه في الوقت الذي بدأ يَدْعَم فيه سلطاته في سيجو، أخذ التوغُّل الفرنسي يشقُّ طريقه نحو إمبراطوريته، وكان أحمدو يتطلَّع إلى تطوير النُّظُم الاقتصادية في دولته، ويسعى إلى إقامة عَلاقات تجارية مع الدول المجاورة ومع الفرنسيين في حوض السنغال، ومع البريطانيين في جامبيا وسيراليون؛ ونظرًا لاتساع الإمبراطورية فقد حَكَم أقاربه أجزاء منها بصورة شبه مستقلَّة، حيث حكم أخوه أجوبو منطقة دنجوري في الجنوب، وحكم ابن عمه -ويسمى التيجاني- منطقة ماسينا بعد أن استعادها عقب وفاة الحاج عمر في عام 1864م.
وتقدم الفرنسيون في حوض النيجر حتى مدينة ساي ومنها إلى بوسا؛ مما أدى إلى اصطدام مع البريطانيين الذين كانوا يَدْعَمون نفوذهم في نيجيريا، وبدأت سلسلة من المفاوضات بين الدولتين لتقسيم هذه المنطقة.
هكذا انتهت إمبراطورية الحاج عمر في بلاد التوكولور بعد أن حقَّقت هذا النصر الرائع، وبعد أن نجحت في تقوية رابطة الوَحدة بين أتباعه الذين ينتمون إلى قبائل مختلفة، ولولا الاستعمار الفرنسي لنجح الحاج عمر في إقامة دولة إسلامية في إفريقيا.
وإذا ألقينا نظرة على هذه الإمبراطورية نجد أنه بنى إمبراطورية إسلامية أكثر مركزية عن إمبراطورية الفولاني في سوكوتو، أو دولة الشيخ أحمدو لوبو في منطقة ماسينا، وقد تكوَّنت هذه الإمبراطورية في منطقة عَرَفت الإسلام منذ قرون خَلَتْ، بدلًا من الهجوم على الحكام المسلمين بسبب تهاونهم في تطبيق الشريعة الإسلامية، وكان الحاج عمر قد اعتنق مبادئ التيجانية، وهي أحدث من الطريقة القادرية التي انتهجها كل من الشيخين عثمان بن فودي وأحمد لوبو[5].
[1] مجلة الوعي الإسلامي، التاريخ 23/12/2006م، العدد رقم (493)، الرابط:
http://alwaei.com/topics/current/art...e=498&sdd=1284
[2] أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا ص73.
[3] مجلة الوعي الإسلامي، التاريخ 23/12/2006م، العدد رقم (493)، الرابط:
http://alwaei.com/topics/current/art...e=498&sdd=1284
[4] د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص43، 44.
[5] المصدر السابق ص47-51.
منقول