الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ الله تبارك وتعالى يقول:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِوَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِإِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍلِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أيّام الله: نِعَمُه وأياديه.
وإنّ من أيّام الله تعالى الّتي ينبغي تذكّرها وتذكير النّاس بها، وأن تقبل النّفوس والقلوب إليها، شهر كريم، وضيف عظيم: إنّه شهر شعبـان.
نسأل الله عز وجل أن يمنّ علينا بالتّوفيق إلى طاعته في أيّامه، ويوفّقنا إلى صيامه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
وقد عظّم السّلف الصّالح هذا الشّهر حتّى لقّبوه بشهر القُرّاء .. قال سلمةُ بنُ سُهيل رحمه الله :" كان يقال: شهر شعبان شهر القرّاء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء.
وكان عمرو بن قيس المُلائي رحمه الله :إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرّغ لقراءة القرآن.
وما زال أهل العلم يبيّنون فضائل هذا الشّهر أو فضل ليلة النّصف منه، ومن ذلك:
أ) " لطائف المعارف " لابن رجب الحنبليّ.
ب) " تحلية الشّبعان في ما روي في ليلة النّصف من شعبان "، للإمام شمس الدّين محمّد بن طولون الدّمشقي رحمه الله.
ت) وجزء في :" ليلة النّصف من شعبان وما ورد في فضلها " للإمام ابن الدّيبثي رحمه الله.
ث) كتاب:" ما جاء في شهر شعبان " للإمام أبي الخطّاب ابن دحية.
ج) كتاب:" إسعاف الخلاّن بما ورد في ليلة النصف من شعبان " للشّيخ حمّاد الأنصاري رحمه الله . وغير ذلك.
وهذه فوائد تتعلّق بشهر شعبان وبعض أحكامه، طرحتها على شكل سؤال وجواب حتّى يسهُل ضبطها وحصرُها، نسأل الله التّوفيق والسّداد، والهدى والرّشاد، وأن يُجنِّبنا سبلَ الغيّ والفساد.
1- السّؤال الأوّل:لماذا سُمِّي شهرُ شعبان بهذا الاسم ؟
الجواب: ممّا يجب أن نعلمه، أنّ العرب عندما سمّت أسماء الشّهور، نقلتها من الأزمنة التي كانوا فيها، بحسَب ما يتّفق لها من الأحوال والأحداث.
فسمّوا ما سُمِّي بـ( الرّبيع ) لأنّه صادف موسم الرّبيع، و( رمضان ) لشدّة الرّمض به - وهو شدّة الحرّ -، وسمّوا ( شعبان ) من "الشَّعب" وهو التفرّق، لتفرّقهم فيه طلبا للماء قبل رمضان.
2- السّؤال الثّاني:هل ورد شيء في فضل صوم هذا الشّهر ؟
الجواب: ثبتت أحاديث كثيرة تبيّن فضل شهر شعبان، وهي على نوعين:
أ) أحاديث في فضل صيام الشّهر مطلقاً.
ب) أحاديث في فضل ليلة النّصف من شعبان، ويومها.
* الأحاديث الدالّة على فضل الشّهر مطلقا:
وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم أكثره، وذلك لأنّ أعمال العام كلّه ترفع إلى الله تعالى:
- فقد روى الإمام أحمد، والنسائي عن أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ اللهِ ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قال:
(( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )).
وينبغي أن نتأمّل هذا الحديث؛ فإنّ المسلمين تلك الأيّام ما كانوا يحسبون الشّهور إلاّ بالحساب الهجريّ، ومع ذلك يقول النبيّ صلّى اللهعليه وسلّم: (( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ )) ! فكيف إذا كان الحساب الهجريّ بينه وبين المسلمين بعدُ المشرقين ؟!
- وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
( كَانَ رَسُول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ )).
وفي لفظ آخر لمسلم عنها رضي الله عنه قالت: (( كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ .. قَدْ صَامَ .. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ .. قَدْ أَفْطَرَ.. وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا)).
الأحاديث الثّابتة في ليلة النّصف من شعبان ويومها:
إنّ ليلة النّصف من شعبان ويومها، ثبت فيهما أجر عظيم، وثواب عميم، وفضائلها نوعان:
النّوع الأول: الأحاديث الواردة في اطّلاع الربّ عزّ وجلّ ليلة النّصف، ومغفرته لخلقه:
روى ابن ماجه عن أبي موسَى الأَشعرِيِّ عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُلِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ )).
وروى الإمام أحمد عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( يَطَّلِعُ اللَّهُعزّ وجلّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ مُشَاحِنٍ وَقَاتِلِ نَفْسٍ )) [وقد ضعّف بعضهم زيادة لفظ: وقاتل نفس].
وقد تضمّن هذان الحديثان عدّة أمور:
- الأمر الأوّل: اطّلاع الله عزّ وجلّ ليلة النّصف من شعبان.
وقد جاءت رواياتٌ تذكر النّزول ضعيفة الإسناد، ولكن يشهد لها أحاديث النّزول كلّ ليلة، وليلة النّصف منها ولا ريب، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( يَنْزِلُ رَبُّنَاتبارك وتعالىكُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَيَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ )).
- الأمر الثاني: مغفرة الله لخلقة سوى المشرك والمخاصم ( المشاحن ).
أمّا المشرك فدلّ عليه الكتاب أيضا، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
أمّا المشاحن فليس بأوّل خير يُحرم منه، فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي اللهعنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( تُفْتَحُأَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُواهَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا .. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا..)).وفي رواية: (( إِلَّاالمُتَهَاجِرَيْنِ )).
-الأمر الثّالث: وردت أحاديث ضعيفة تستثني العاقّ لوالديه، والقاطع للرّحم.
والمعنى صحيح، وإلاّ فمَنْ أعظمُ مشاحنةً ومصارمةً من العاقّ لوالديه وقاطع الرحم ؟!
وزيادة ( وقاتل نفس )، وإن كانت ضعيفة، فالقاتل يدخل في المشاحن دخولا أوّليّا.
3- السّؤال الثّالث: هل يجوز تخصيص يوم نصف شعبان بالصيام، وليلته بالقيام ؟
الجواب: لا يجوز تخصيص ليلة النّصف من شعبان بقيامٍ، ولا يومِها بصيامٍ؛ لأنّه قد تقرّر تحريمُ الإحداث في الدّين والابتداع فيه، فالّذي لا يصوم شعبان، ولا يقوم لياليَه، ثمّ يريد أن يفعل ذلك لأجل ليلة النّصف فقد جاء ببدعة في الدّين، وكلّ بدعة ضلالة.
ولكن من كان عادته قيام الليل دائماً أو غالبا، فصادفها فجائز، ومن كانت عادته صيام أيّام البيض فلْيَصُم اليوم الخامس عشر، لأنّه منها.
موقع نبراس الحق