ومنها:- ما في حديث أبي هريرة:- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الإماء. وقد قيل المراد بكسب الأمة جميع كسبها ، وهو من باب سد الذرائع ، لأنها لاتؤمن إذا ألزمت بالكسب أن تكسب بفرجها ، فالمعنى أن لايجعل عليها خراج معلوم تؤديه كل يوم ، فعلى هذا القول يكون هذا الحديث من الأحاديث التي يستدل بها على سد الذرائع .
ومنها :- أن المشروع للعبد أن لا يخالط أهل الأمراض المعدية ، وأنه يطلب منه الابتعاد عنهم محافظة على الصحة ، وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) وقوله (( لا يورد ممرض على مصح )) وهذا في العدوى الانتقالية بقدر الله تعالى ، وأما العدوى الابتدائية فإنها منفية في الشرع ، في قوله صلى الله عليه وسلم (( لا عدوى ولا طيرة )) فالمنفي هنا إنما هو العدوى الابتدائية ، والأحاديث الأخرى في العدوى الانتقالية ، فلا تخلط بين الأمرين ويستفاد من هذا ، أنه يجوز لولي الأمر الحجر على أصحاب الأمراض الخطيرة المعدية ، كمرضى (الإيدز) ونحوه ، لما في ذلك من حفظ صحة الناس ، ولا يخفاك أن حفظ النفوس من الأصول التي جاء بها الإسلام ، فالفرار من صاحب المرض المعدي ، والحجر على أصحاب الأمراض الخطيرة مما يستدل له بقاعدة ( سد الذرائع) والله أعلم .
ومنها :- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى الناس وهو يستقون من بئر زمزم قال (( انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم )) فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا بالدلال فيسغلبون السقاة على زمزم.فكان صلى الله عليه وسلم يترك الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا ما نسميه نحن:- سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام . فقوله هذا من الأدلة التي يستدل بها على سد الذرائع .
ومنها :- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعطي المسلم أخاه السيف مسلولا ، قال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسماعيل حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا . وما ذلك إلا لسد ذريعة الأذى ، ولسد ذريعة أن يحرك الشيطان يده نحو أخيه فيدفع السيف في بدنه ، ولخشية أن يدفع من خلفه من أحد آخر ، فيقع السيف على أخيه مسلولا فيؤذيه ، ولخشية أن يسقط السيف من يده نحو أخيه فيحصل له الضرر والمهم أن هذا الحديث مبناه على سد الذرائع .
ومنها :- أنه لا يجوز ترك النار في البيت مشتعلة في الليل وأهل الدار نائمون ، روى أبو داود في سننه بسنده من حديث ابن عمر قال:- لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون. يعني لا تتركوها مشتعلة، فاعملوا على إطفائها قبل أن تناموا , وهذا من أدلة سد الذرائع ، لأنه نهى عن هذه الوسيلة من أجل أنها تؤدي إلى غاية ضارة أو يخشى أن تؤدي إلى غاية ضارة .
ومنها :- أنه لا يجوز للإنسان أن يدور بين المسلمين في السوق ولا في المسجد بسيف غير مغمود أو بسهام قد بدا نصالها لما في ذلك من الضرر الظاهر ، فحتى لا يؤذي به نفسه ولا يؤذي به أحدا من المسلمين قلنا :- لا يجوز ذلك ، قال البخاري في صحيحه :- حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا عبد الواحد ، ثنا أبو بردة بن عبد اللَّهِ ، سمعت أبا بردة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (( من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها ؛ لا يعقر بكفه مسلما )) فقوله " لا يعقر به مسلما " أصل من أصول سد الذرائع ، فكل ما من شأنه أن يؤذي أحدا من عباد الله في السوق أو في المسجد فالواجب إبعاده والله أعلم .
ومنها :- أن المتقرر في القواعد أن الشارع إذا حرم شيئا حرم ثمنه ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ )) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم ، وهو قاعدة مبناها على سد الذرائع ، وذلك أن فتح باب بيع الشيء المحرم وسيلة إلى طمع النفوس في ثمنه لما حرم عليها الانتفاع به أكلا وشربا ، فلا أقل من بيعه وأكل ثمنه ، وبيعه وشراؤه ذريعة إلى استعماله في الصورة المحرمة ، فسد هذا الباب من باب سد الذرائع التي تفضي إلى الممنوع ، وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه :- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ (( إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ )) فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ (( لَا هُوَ حَرَامٌ )) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ ((قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ)) وهذا من الأصول التي يبنى عليها القول بسد الذرائع ، والله أعلم .
ومنها :- القول الصحيح أنه لا يجوز لمن في المسجد الخروج بعد الأذان إلا لعذر شرعي ومسوغ مرعي ، فالأذان يمنعه من الخروج ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المؤذن أذن فقام رجل فخرج من المسجد فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج ، فقال :- أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم . والحديث في مسلم ، وحمل الحديث على الكراهة حمل بعيد ، لا سيما وأن الحديث فيه التصريح بأن من فعل هذا فقد عصى النبي صلى الله عليه وسلم والمعصية لا يوصف بها إلا من وقع في المحرم ، ثم هذا فهم الراوي وتفسيره , والمتقرر أن تفسير الراوي مقدم على تفسير غيره ما لم يخالف ظاهر الحديث ، والمقصود أن المنع من الخروج إنما هو لسد ذريعة فوات صلاة الجماعة ، والتشاغل عنها، والله أعلم .
ومنها :- القول الصحيح أنه لا تجوز تسمية الغلام بأفلح ولا نجيح ، ولا يسار ولا رباح ، وذلك لثبوت النهي عنه كما في قوله صلى الله عليه وسلم (( لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول :- أثم هو ؟ فيقول :- لا )) والعلة في النهي هنا كما هو ظاهر اللفظ هي سد الذرائع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك سدا لذريعة الطيرة المحرمة ، فإن من الناس من تكون عنده حساسية من بعض الألفاظ القبيحة ، فإذا سمع أحدا يقول :- أعندك أفلح ؟ فقال :- لا ، فإن من النفوس من يتأثر بذلك ، ويتخذه من باب التشاؤم المنهي عنه ، وباب التطير محرم ، ومن مقتضى تحريمه تحريم كل الوسائل التي توصل له ، ومن هذه الوسائل التسمية بهذه الأسماء الأربعة ، لأن نفيها يوجب التطير ، فمنعت التسمية بها سدا لباب التطير المنهي عنه ، والله أعلم .
______