قال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «من أهل النَّار؟»، فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها!! فقال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً»، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟»، قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟»، فقالوا: نعم. فقال: «ما حملكم على ذلك؟»، فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك"
قد تظافرت الأدلة الشرعية والعقلية والكونية والفطرية على أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، ولا يشك في ذلك مسلم بحمد الله، كيف لا، ولا يمكن أن يثبت قدم الإسلام لأحد إلا بعد أن يشهد إلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! ولكن ما نذكره في هذا الموضوع ما هو إلا ذكرى لمن يتذكر، وعبر لمن أراد الهداية والرشاد إلى الطريق القويم، وإضاءة يستضيء بها المؤمنون، ويتزودوا بها من الإيمان ما يوصلهم إلى الغاية التي أراد الله لهم سبحانه وتعالى. فإلى ذكر شيء قليل بما يسمح به المقال القصير من دلائل صدق الرسالة المحمدية على صحابها أفضل الصلاة والسلام.
فيمن شفاه الله ببركة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ أو بارك الله فيه وجمَّله:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "بعث رسُولُ اللهِصَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ إلى أبي رافعٍ اليهوديِّ رِجَالاً من الأنصارِ، فأمَّرَ عليهم عبدَ اللهِ بن عَتِيك، وكان أبو رافع يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ ويُعِينُ عَلَيْهِ، وكان في حصنٍ له بأرضِ الحجازِ، فلمَّا دَنَوا منه وقد غربتِ الشَّمسُ، ورَاحَ النَّاسُ بسرحِهم، فقال عبدُ الله لأصحابِهِ: اجلسوا مكانكم، فإني منطلقٌ ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل. فأقبل حَتَّى دَنَا من البابِ، ثم تقنَّعَ بثوبِهِ كأنه يقضي حاجةً، وقد دخل النَّاسُ فهتفَ به البوابُ: يا عبدَ اللهِ، إنْ كنتَ تريدُ أنْ تدخلَ فادخل، فإني أريد أنْ أُغلق الباب. فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل، قلت: إنِ القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حَتَّى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دَهِشٌ، فما أغنيتُ شيئاً وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأُمِّك الويلُ، إنَّ رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حَتَّى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، وجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حَتَّى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حَتَّى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حَتَّى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام النَّاعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجرَ أهلِ الحجازِ، فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء، فقد قتل اللهُ أبا رافع، فانتهيتُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فحدَّثتُهُ، فَقَالَ لي: «ابسطْ رِجْلَكَ»، فبسطتُ رِجْلي فَمَسَحَها فكأنها لم أشتكها قَطُّ"[1].
وقال البخاري: "حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد قال: "رأيتُ أثر ضربةٍ في ساق سلمة، فقلت: "يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟!" فقال: "هذه ضربة أصابتني يوم خيبر"، فقال الناس: "أُصيب سلمة؟" فأتيت النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فنفث فيه ثلاثَ نفثاتٍ، فما اشتكيتها حَتَّى الساعة"[2].
وعن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "أمر معاويةُ بن أبي سفيان سَعْداً، فقال: ما منعك أنْ تسبَّ أبا تراب؟! فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فلن أسبه؛ لأنْ تكونَ لي وَاحِدةٌ منهن أحبُّ إليَّ مِنْ حُمر النعم؛ سمعت رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يقول له خلفه في بعض مغازيه، فقال علي: يا رسُولَ اللهِ، أخلفتني مع النِّساءِ والصِّبيان؟، فقالَ له رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوةَ بعدي»، وسمعته يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله»، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا علياً، فأتى به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه"[3].
والشاهد في هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في عيني علي رضي الله عنه فشفي وقاتل الأعداء، وقد جاء في رواية: "فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع"[4].
ومن دلائل النُّبوُّة إخباره صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ عن أمور مغيبة فوقعت كما أخبر:
عن أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قال: "إن رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعاً"[5].
والشاهد في هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بموت النجاشي في نفس اليوم الذي مات فيه، فدل على أن الخبر جاءه من عند الله الذي يعلم ما يجري في الكون؛ فيكون ذلك دلالة عظيمة على نبوته صلى الله عليه وسلم، ولو أخبره أحد لاستغرق وصول الخبر إليه أياماً كثيرة؛ لبعد المسافة بين المدينة والحبشة؛ ولبطء وسائل النقل والسفر في ذلك الحين.
وعن علي رَضيَ اللهُ عَنْهُ قال: "بعثني رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، وقال: «انطلقوا حَتَّى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حَتَّى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «يا حاطب ما هذا؟»، قال: يا رسُولَ اللهِ لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيه أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً، ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسُولَ اللهِ دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»"[6]، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإرسال الكتاب، ومكان وجود المرأة.
وعن أنس رضي الله عنه: "أن رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسُولَ اللهِ. والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فانطلقوا حَتَّى نزلوا بدراً. ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه، فكان أصحاب رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن أبي سفيان، وأصحابه فيقول: ما لي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف. فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم. أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضاً ضربوه ورسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف، وقال: «والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم». قال: فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «هذا مصرع فلان». قال: ويضع يده على الأرض ههنا وههنا. قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ"[7].
فأخبر صلى الله عليه وسلم بمواضع قتل المشركين، فكان كما أخبر، فلم يمل أحدهم عن المكان الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه علامة من علامات نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.
في إجابته عن أسئلة أهل الكتاب وغيرهم بما يُسكتهم:
عن علقمة بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بينا أنا أمشي مع النَّبيّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ في خراب المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه. فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت: فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت فلما انجلى عنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]، قال الأعمش: هكذا في قراءتنا"[8].
وعن ابن عباس رَضيَ اللهُ عَنْهُما قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً، نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قالوا: أوتينا علماً كثيراً، وأوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً. قال فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]"[9].
وعن أنس بن مالك رَضيَ اللهُ عَنْهُ: "أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا»، قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر أن يقول رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «سلوني»، فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسُولَ اللهِ؟ قال: «النَّار»!، فقام عبد الله بن حُذافة، فقال: من أبي يا رسُولَ اللهِ؟ فقال: «أبوك حُذافة»، قال: ثم أكثر أن يقول: «سلوني سلوني»، فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ رسولاً. قال: فسكت رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ حين قال عُمَرُ ذلك، ثم قال رسُولُ اللهِ: «والذي نفسي بيده لقد عُرضت عليَّ الجَنَّة والنَّار آنفاً في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أرَ كاليوم في الخيرِ والشَّرِّ»"[10].
عن ثوبانَ مولى رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ قال: "كنتُ قائماً عند رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فجاء حَبْرٌ من أحبارِ اليهودِ، فقال: السَّلامُ عليكَ يا مُحَمَّدُ، فدفعتُهُ دفعةً كاد يُصرعُ منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسُولَ اللهِ؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سمَّاهُ به أهلُهُ، فقال رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «إن اسمي مُحَمَّد الذي سماني به أهلي»، فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «أينفعك شيء إن حدثتك؟»، قال: أسمع بأذني، فنكت رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ بعود معه، فقال: «سل!»، فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «هم في الظلمة دون الجسر»، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: «فقراء المهاجرين»، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجَنَّة؟ قال: «زيادة كبد النون»، قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: «ينحر لهم ثور الجَنَّة الذي كان يأكل من أطرافها»، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمى سلسبيلاً»، قال: صدقتَ. قال: وجئتُ أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: «ينفعك إن حدثتك؟»، قال: اسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: " «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة ذكراً بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله»، قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي. ثم انصرف فذهب، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، ومالي علم بشيء منه حَتَّى أتاني الله به»"[11].
وفي هذا الحديث من الدلالات ما لا يخفى إلا على عديم العقل أو معتوه، وما أخس طبع اليهود من عهد موسى عليه السلام إلى اليوم!، فهذا اليهودي يسأل عن أشياء فيجيبه عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كأنها رأي العين، ومع هذا يكون الرد على تلك الأجوبة بارداً: صدقت وإنك لنبي!، ولم يقل حينما رأى الحق ينطق: أشهد أنك رسول الله جئت بالحق الذي وافق ما عندنا من التوراة. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفحم هذا اليهودي بتلك الإجابات التي علمه الله إياها، وكان قصد اليهود من ذلك إعجازه وإضعافه أمام أصحابه، وأنى لهم ذلك!!
وعن أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قال: "لما فتحت خيبر أهديت لرسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ شاة فيها سم، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود»، فجمعوا له فقال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «من أبوكم؟»، قالوا: أبونا فلان، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «كذبتم بل أبوكم فلان»، فقالوا: صدقت وبررت. فقال لهم: «هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. قال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «من أهل النَّار؟»، فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها!! فقال لهم رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً»، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟»، قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟»، فقالوا: نعم. فقال: «ما حملكم على ذلك؟»، فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك"[12].
وهذا يدل أيضاً على لؤم اليهود وبهتهم، فقد سألهم عن أمور لا يعلمها إلى نبي، وأخبرهم بأن الشاة مسمومة، ومع كل ما ظهر لهم من الآيات الدالة على صدق نبوته، لم تزل قلوبهم قاسية، نعوذ بالله من ذلك، ويدل على ذلك قولهم: "وإن كنت صادقاً لم يضرك!"، فلم يشهدوا برسالته مع رؤيتهم ما تيقن في قلوبهم من أنه رسول الله!
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "مرَّ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يهوديٌّ مُحمَّماً مجلوداً فدعاهم صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، فقالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، قال: لا. ولو أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد!. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم!!، فقال رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه»، فأمر به فرجم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُول لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]. يقول: ائتوا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {ومن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة من الآية:44]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة من الآية:45]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة من الآية:47] في الكفار كلها"[13].
نسأل الله أن يرزقنا الثبات على الإسلام، وأن يتوفانا عليه، وأن يهدي الضالين عنه، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53].
------------------
1. (البخاري الفتح [6/180] رقم [3023/3022] كتاب الجهاد والسير باب قتل النائم المشرك).
2. (البخاري- الفتح [7/542] رقم [4206] كتاب المغازي باب غزوة خيبر).
3 . (صحيح مسلم [4/1870] رقم [2404] كتاب فضائل الصحابة من فضائل علي بن أبي طالب، واللفظ لمسلم).
4. (في البخاري برقم [2847]، ومسلم برقم [2406]).
5. (البخاري الفتح [3/139] رقم [1245]- كتاب الجنائز- باب الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه).
6. (البخاري- الفتح [12/317] رقم [6939]- كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب ما جاء في المتأولين).
7. (صحيح مسلم [3/1453] رقم [1779]- كتاب الجهاد والسير باب غزوة بدر).
8. (البخاري الفتح [1/270 ] رقم [125]- كتاب العلم- باب قول الله {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}).
9. (رواه الإمام أحمد في مسنده ج [1] ص [255] كتاب مسند بن هاشم- باب بداية مسند عبد الله بن العباس، قال الشيخ مقبل الوادعي: "هذا حديث صحيح الإسناد ورجاله ثقات مشهورون، فقد أخرج الشيخان لقتيبة، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأخرج مسلم لداود بن أبي هند، وأخرج البخاري لعكرمة").
10. (البخاري الفتح [2/27] رقم [540] كتاب مواقيت الصلاة- باب وقت الظهر عند الزوال).
11. (صحيح مسلم [1/252] رقم [315]- كتاب الحيض- باب صفة مني الرجل والمرأة).
12. (البخاري- الفتح [10/255] رقم [4249]- كتاب الطب- باب ما يذكر في سمَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ).
13. (صحيح مسلم [3/1326] رقم الحديث [1699]- كتاب الحدود- باب رجم اليهود أهل الذمة في ال***).
التصنيف: السيرة النبوية
المصدر: موقع موسوعة الكلم الطيب