عظمة محمد صلى الله عليه وسلم
الشيخ علي الطنطاوي
إن من الظلم لمحمد، وإن مِن الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من
العظماء الذين لمعت أسماؤهم من دياجي التاريخ، من يوم وُجد التاريخ. فإنّ مِن العظماء
من كان عظيم العقل، ولكنه فقير في العاطفة وفي البيان، ومن كان بليغ القول وثَّاب
الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الإدارة أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت
أخلاق السوقة الفجار.
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من
هؤلاء إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها، وكتمان أمرها، ويخشى أن يطّلع الناس
على خبرها، نواحٍ تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تدلّ على ضعفه وشذوذه،
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعًا، فكانت كتابًا
مفتوحًا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء.
وهو وحده الذي أَذِن لأصحابه أن يذيعوا عنه كلّ ما يكون منه ويبلغوه، فرووا كلّ ما
رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات
الغضب، والرغبة، والانفعال.
وروى نساؤه كلّ ما كان بينه وبينهنّ، هاكم السيدة عائشة -رضي الله عنها- تعلن في
حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله؛ لأنّ فعله كلّه دين وشريعة... وكتب
الحديث والسير والفقه ممتلئة بها.
لقد رووا عنه في كلّ شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف
يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
فأروني عظيمًا آخر جَرُؤَ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعًا،
فاطّلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو، وليجد من شاء مطعنًا عليها؟!
أروني عظيمًا آخر دُوِّنَت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها بعد ألف
وأربعمائة سنة، مثل معرفتنا بسيرة نبينا؟!
والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإمّا أن تكون
بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم، وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته
وفي تاريخ العالم، ولكلّ عظيم جانب من هذه المقاييس تُقاس بها عظمته، أما عظمة
محمد تقاس بها جميعًا؛ لأنّه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال،
عظيم الآثار.
والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها، كعظمة
الأبطال المحاربين والقواد الفاتحين، وإما أن تكون عظمته عالمية، ولكن في جانب
محدود في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة وأخفاها؛ حتى
نُعمِل العقل في الوصول إليها، أو معرفة دواء من أدوية المرض، أو وضع نظرية من
نظريات الفلسفة، أو صوغ آية من آيات البيان، قصة عبقرية، أو ديوان شعر بليغ.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فكانت عظمته عالمية في مداها، وكانت شاملة في
موضوعاتها.
المصدر: موقع الدرر السنية.
|