من الأعمال القلبية التي تتوقف عليها صحة الأعمال التكليفية وقبولها (الإخلاص) وهو لفظ قرآني عتيد، يرجع في أصله اللغوي إلى مادة (خلص) التي تفيد تنقية الشيء وتهذيبه. يقولون: خَلَّصْتُه من كذا، وخَلَص هو منه. والخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه. ويقال: خَلَص لي فلان، بمعنى صار لي وحدي، وصفا لي. يقال منه: خَلَص لي هذا الشيء، فهو يخلُص خُلُوصاً وخالصة، و(الخالصة) مصدر مثل (العافية). ويقال للرجل: هذا خُلْصاني، يعني خالصتي من دون أصحابي.
وحقيقة الإخلاص من المنظور الشرعي: التبري عن كل ما دون الله تعالى. وعُرِّف أيضاً بأنه: إفراد المعبود عن غيره. وقال صاحب "منازل السائرين إلى الحق المبين": "الإخلاص: تصفية العمل من كل شوب".
ولفظ (خلص) بتصريفاته النحوية والصرفية ورد في القرآن الكريم في أحد وثلاثين موضعاً (31) ورد في أربعة مواضع بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله} (النساء:146)، وجاء في ستة وعشرين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {فاعبد الله مخلصا له الدين} (الزمر:2)، وأول ورود لهذا اللفظ في القرآن الكريم قوله عز وجل مخاطباً اليهود: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} (البقرة:94).
وفي القرآن الكريم سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} سميت بهذا الاسم؛ لأنها تضمنت خالص التوحيد؛ وكون الاعتقاد بما تضمنته سبب خلاص أهله.
ولفظ (خلص) باشتقاقاته المختلفة ورد في القرآن الكريم على أربعة معان:
المعنى الأول: بمعنى التوحيد وعدم الإشراك بالله تعالى، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم وفق هذا المعنى، من ذلك قوله عز وجل: {ونحن له مخلصون} (البقرة:139) أي: ونحن لله مخلصو العبادة والطاعة، لا نشرك به شيئاً، ولا نعبد غيره أحداً، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان، وأصحاب العجل معه العجل.
وعلى وفق هذا المعنى أيضاً قوله عز من قائل: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} (الأعراف:29) أي: وحدوه ولا تشركوا به. ومن هذا القبيل أيضاً قوله تبارك وتعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} (الزمر:11) أي: لا أشرك في طاعته وعبادته أحداً غيره سبحانه، على حد قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} (الأنعام:162).
ونحو ذلك قوله تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين} (غافر:14)، وقوله سبحانه: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة:5)، وقوله عز وجل: {دعوا الله مخلصين له الدين} (يونس:10) أي: دعوه وحده، وتركوا ما كانوا يعبدون من دونه.
المعنى الثاني: بمعنى الاصطفاء والاختيار من دون الناس، جاء بحسب هذا المعنى قوله عز وجل: {إلا عبادك منهم المخلصين} (الحجر:40) قرئ {المخلصين} -بفتح اللام- على معنى: الذين أخلصتهم واصطفيتهم وطهرتهم. وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك في العمل. والقراءتان متواترتان.
ومن هذا القبيل قوله سبحانه في حق النبي موسى عليه السلام: {إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا} (مريم:51) أي: اصطفيناه، فجعلناه مختاراً، كقوله تعالى: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف:144).
ومنه أيضاً قوله سبحانه على لسان عزيز مصر في حق يوسف عليه السلام: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} (يوسف:54) أي: أصطفيه لنفسي دون غيره، وأفوض إليه أمر مملكتي.
ومن ذلك كذلك قوله عز من قائل: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} (ص:46) أي: خصصناهم بخاصة (ذكر الدار) واصطفيناهم من دون الناس، بأن يذكروا الدار الآخرة، ويتأهبوا لها، ويرغبوا فيها، ويرغبوا الناس فيها...والمعنى: أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، أي: تذكير الدار الآخرة. و(الخالصة) مصدر بمعنى الخلوص، أي: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وهي الدار الآخرة.
المعنى الثالث: بمعنى الانفراد عن الغير، جاء بحسب هذا المعنى قوله تعالى واصفاً حال إخوة يوسف عليه السلام: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} (يوسف:80) {خلصوا} أي: انفردوا بأنفسهم، وليس يوسف معهم. وبحسب هذا المعنى فُسِّر قوله عز وجل: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} (الأعراف:32) أي: إن زينة الله التي أخرج لعباده، وطيبات رزقه، للذين صدقوا الله ورسوله، وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف، وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة، لا يشركهم في ذلك يومئذ أحد كفر بالله ورسوله، وخالف أمر ربه.
ومنه أيضاً قوله تبارك وتعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} (البقرة:94) أي: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله {من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يتأول قوله: {خالصة}: خاصة.
ومنه كذلك قول الباري سبحانه: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} (الأنعام:139) أي: قال المشركون: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم دون إناثهم، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتاً، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء. فنهى الله عن ذلك.
ومنه أيضاً قوله تعالى مختصًّا به رسوله صلى الله عليه وسلم: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (الأحزاب:50) أي: لا يحل لأحد من المسلمين أن يقرب امرأة وهبت نفسها له، وإنما ذلك لك يا محمد، أخلصت لك ذلك من دون سائر أمتك.
المعنى الرابع: بمعنى الأمر الذي لا يشوبه شيء، من ذلك قوله تعالى: {ألا لله الدين الخالص} (الزمر:3) أي: لله سبحانه الدين الذي لا يشوبه شيء. وعلى هذا قوله سبحانه: {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا} (النحل:66) أي: خلص من مخالطة الدم والفرث، فلم يختلطا به.
فأما قوله تعالى: {لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين} (ص:168-169) فقد قال الطبري في تفسيره: {لكنا عباد الله} الذين أخلصهم لعبادته، واصطفاهم لجنته". وقال القرطبي: "أي: لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين، لأخلصنا العبادة لله". وقال ابن عاشور: "أي: لكنا عباد الله دون غيرنا"؛ فالطبري فسر الآية على معنى الاصطفاء والاختيار، والقرطبي فسرها على معنى إخلاص العبادة لله تعالى، وابن عاشور فسرها على معنى الانفراد بالأمر دون الغير.
وبالنظر فيما تقدم يتبين أن لفظ (خلص) على اختلاف اشتقاقاته أكثر ما جاء في القرآن الكريم بمعنى التوحيد، وعدم الإشراك بالله تعالى، وجاء ثانياً بمعنى الاصطفاء والاختيار، وجاء ثالثاً بمعنى الانفراد بالشيء، وجاء أخيراً بمعنى التصفية من الشوب والأخلاط، وهذا المعنى الأخير جاء على وفاق الأصل اللغوي لمادة (خلص).