لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد لا تحوي هذه القصص متطلبات القصة من تحديد
لزمان ومكان وقوع الاحداث وهذا امعانا في الصدق
دون الحاجة الى المواربة او تورية بعض الجوانب.
فالتركيزا ينصب على العبرة ففي القصص عبر , واذا
اختلط فيها الواقع بالخيال فإن في الواقع لاغرب
من الخيال.
فخذوا ما صفا وضعوا الذي فيه كدر كما درجنا ان نردد.
همسات ليلة قمرية
كالعادة لم يبخل الصيف بدفئه المعتاد, ولا القمر بنوره الساحر الوضاح
مبددا ظلمات الليالي القصيرة ومخفيا وراء نوره الكثير من النجوم
والكواكب التي كانت تزين السماء مترورقة فيها ومرسلة خيوط ضوئها
بحرية أشبه بحرية الأطفال قبل أن يحل الليل ويدفعهم للاختفاء وراء
جدران منازلهم بعد أن شبعوا لعبا وتعبا تحت نور شمس الأصيل
وبدايات خيوط ضياء القمر. لكن الكثير من البالغين أغرتهم
روعة المناظر تحت ضوء القمر, كما شجعهم دفئ الطقس للخروج إلى
الشوارع والحدائق. كأنهم يريدون أن يحلو محل الصغار ليشبعوا
بدورهم لعبا وتعبا ولكن بطريقتهم.
وكل إناء بما فيه ينضح
قد اخترت حديقة تكثر فيها التجمعات في شكل دوائر ينطلق من بعض
أفرادها همس القصص والحكايات والنقاش الهادئ وكأن نور القمر
يقف رقيبا علي صوتهم. فكان لحسن الإصغاء مكانا أيضا.
إن كان فضولي قد قادني إلى تلك الحديقة راضيا إلا أن حيرتي في
اختيار من اجلس معهم لم ترحمني, فقد استبد بي الطمع والتلهف للمعرفة.
يكفي أنني ضيعت في التفكير وقتا زادني حيرة وندما.
فأسرعت نحو إحدى التجمعات مستأذنا بالجلوس معهم فلم
يمانعوا كعادتهم كما يبدوا.
ولم اعد غريبا بينهم بعد أن اكتشفت أنهم لا يتذكرون أسماء
بعضهم جيدا وهذا ما زادني شجاعة للسؤال والكلام.
كما أن وقارهم كان يحثني على حسن الإصغاء.
وجوه تبدوا عليها الحكمة التي خلفتها خبرة السنين الصاقلة,
فكان كل إناء بما فيه ينضح.
شقاء عمال المناجم
بعد انتهاء القصة أو الكلام الذي لم أوفق بحضور بدايته بدأ بالتكلم رجل اشتعل
رأسه شيبا ونور القمر زاده اشتعالا, فبدأ قائلا: إن لم يكن وجهي يصدق مخبرا
بشقاوة عمال المناجم في بلادي, فإن خشونة يدي المنفرة والتواء ظهري
لأصدق مخبر, وما دفعني للعمل في ذلك المنجم إلا عسرة العيش ومهانة السؤال.
قبل ذلك كنا نعيش في أمان وسعة, هذا قبل أن تحرق بيوتنا ومزارعنا من قبل من
اعتبرناهم ضيوفا في ديارنا, فأصبحوا ملاكاها رغما عنا, وجعلونا ضيوفا فيها بل
وقطعانا لهم نعمل من أجلهم مقابل ما تجود به موائدهم من فتات وجيوبهم التي
ملأناها لهم بخيرات بلادنا.
كم كان قلبي يحترق حنقا عندما كنت أرى في المنجم الماس والذهب وغيرها من
المعادن التي نستخرجها بشقاء ثم يأخذها منا الرجل الأبيض ليستعبدنا بها.
تناقضات الإنسان
إن الناس في بلادي أحياء يعيشون لكن ما ذلك بعيش, مساكنهم أكواخ أشبه بعش
العصافير, وان عملوا فإنه للشقاء وليس للكسب. ليس للكثير منهم الخيار في أن
لا يستخرجو خيرات أرضهم المنهوبة من الذهب والفضة والماس وغيرها,
وأجسادهم تتسبب منها عرقا ودما, ليحيى بها ما يسمون بالأسياد, في جنات
أرضية أشبه ما تكون بالخيالية.
لا نعلم لماذا يكرهوننا؟ رغم كل ما فعلناه ونفعله من أجلهم. ليس لنا يد في وضع
ألواننا وان كنا نفخر بما وهبنا الخالق, ولا اعتقد أن السبب هذا أو ذاك. إذ أنني
مررت بتجربة لا أقول إنها حدثت صدفة بل كانت حدثا أتى معلما لي ولغيري لما
يبدوا في الظاهر وغير ما يكنه الصدر وما يتبعه من فعل.
ففي احد الشوارع المزدحمة كانت تمر سيدة بيضاء وكان برفقتها كلب اسود اللون,
ولكون الحيوان لا يعرف العنصرية اتجه نحوي مقتربا مني فجعلت ألاطفه لكن
السيدة أسرعت مهرولة نحونا وهي تطلق السموم من لسانها: كان يجب عليك ألا
تلمسه, أنسيت انك اسود؟ فرددت عليها قائلا: ألا ترين أن كلبك اسود اللون أيضا؟
فبهتت للحظة إلا أن ما رضعته من عنصرية لسنين طويلة تغلب على فطرتها التي
كادت أن تظهر في ذلك الموقف. وهكذا تغلب الطبع على الفطرة عند تلك السيدة.
فإنها وبلا شك تحب ذلك الكلب مهما كان لونه وشكله وقد تكون اختارت ذلك اللون
الأسود بعينه عامدة تقليدا أو إرضاءً لنفس راغبة. كما يحدث أن تجد ذلك اللون مغطيا
سطح بعض ملابسها ولا يقتصر ذلك على كلبها الذي قد يضرها أكثر مما ينفعها.
ومع ذلك تراها تكره نفس ذلك اللون عندما يكون على جسم إنسان ما فتئ يخدم
مجتمعها بعرقه ودمه! وهكذا الجمال والقبح ليست أسبابا ترتكز على الحقائق لتضليل
هذا وإشقاء ذاك إنما هي مجرد ذرائع غير منطقية تبيح اغتصاب شرف وأملاك الغير
من الضعفاء وفي عقر دارهم.
لا احد من الشرفاء في هذه الدنيا يرضى أيا كانت الذرائع أن تحتل داره ويطرد منها
أو يعيش فيها خادما وعبدا للسارق والمغتصب.
لقد كان الكثير منا هنا يظن من قبل, أن اختلاف العقيدة هو سبب أيضا لما يعاملوننا به,
لكن اعتناق البعض منا لعقيدة المحتل لم يشفع لهم, وبالتالي لم يحسن من وضعهم.
الحق لا يعطى ولكن...
لقد تعلمت حقا بمرور تلك السنين العجاف الكثير, وما استخلصته من ذلك هو أن الحق
لا يعطى لكن يجب أن ينتزع, ولا يمكنه أن يأتي بالرقص أو الانتظار أو بالإضراب في
السجون مهما طال أمده أو بمثلها من الوسائل التي لا يعيرها الاهتمام من خلا قلبه من
الإنسانية, وما أكثرهم, لذلك لا يمكنك دائما أن ترش بالماء من يرشك بالنار,
النار تواجه بالنار, والبادئ اظلم. لا بد من القصاص لاستمرار الحياة الكريمة..
وإلا كان مصيرنا كمصير الهنود الحمر, إبادة شامله بالأسلحة التقليدية أو
البيالوجية أو غيرها.
من يعطي الأحمق خنجرا يصبح قاتلا هذا ما يقوله المثل الإنجليزي الذي ما فتئ أصحابه
يمدون الحمقى في بلادنا بالخناجر وغيرها من الأسلحة المتطورة.. ما أكثر من يقفون
اليوم وراء المغتصب من دعاة الحرية المزيفة.لكن لا بد للحرية الحقيقية من ميلاد,
لتقام الأفراح على أنقاض ومآتم الحرية المزيفة التي أشقت دعاتها, وضحاياها الذين
لم يعرفوا لها طعما سنين طويلا.
لقد زادت عينا الرجل توهجا وهو يقص قصته تلك, يعقب ويعلق عليها, إلا أن قلبي
أيضا كان متعلقا بما يحكى في التجمعات الأخرى لكن الأصوات بدأت تخفت بعد أن بدا
القمر يبتلعه ونوره معه ذلك الجبل الشاهق. ثم بقيت الهمسات, فقد اختفت الوجوه تحت
ستار الظلام, وسماع المتكلم دون رؤيته يقلل التركيز ويجلب النعاس, ولا يحلوا لقصاص
الكلام دون وجود من يحسن الإصغاء, فهيا بنا نختفي بدورنا, لكن ليس وراء الجبل بل
وراء الجدران مع الصغار النائمون, فقد اختفى ما شجعنا للخروج,